تفاصيــل الخبـر

من خلف القضبان : حين صار للجحيم صوت يتكلم

هل سمعتم عن الجحيم وهو يتكلم؟ نعم، يتكلم حين يخرج الأسرى من السجون والزنازين، بأجساد أنهكها العذاب وأرواح نجت من الموت بأعجوبة. في صفقة "طوفان الأحرار" الثالثة خرجوا كمن خرج من تحت الركام ، ليس ركام البيوت، وإنما ركام القهر والعتمة والجوع.

خرجوا بأقدام مبتورة، بعيون مطفأة، بذاكرة مثخنة بالعذاب، يحكون ما لا تجرؤ الكاميرات على التقاطه، وما لا يصدّقه عقل إلا إذا سمعه من فم من عاشه. قال أحدهم: "كنا نعيش في قطعة من الجحيم، لا نعرف ليلا من نهار، ولا نعرف إن كنا أحياء أم أمواتا".

الصحفي شادي أبو سيدو.. حين تكسر العدسة ويظل الضوء حيا

هل سمعتم عن صحفي اعتقل لأنه حمل الكاميرا بدل السلاح؟ يقول شادي أبو سيدو، الذي اعتقل من داخل مجمع الشفاء الطبي، بصوت متعب كأنه خارج من باطن الأرض: "جردونا من ملابسنا وضربونا حتى تكسرت عظامي، ثم رموني في الشاحنات. في معتقل سديه تيمان كنت أجثو على ركبتيّ عاما كاملا، مقيّد اليدين، مغمض العينين. الطعام لا يكفي لطفل، والماء كأنه سم. كانوا يعاقبوننا إن تأخرنا عن الحمام، وإن تحركت شفاهنا في الصمت، يشبحوننا مئة يوم على الجدار" ثم يهمس وكأنه يخشى أن يسمع صوته أحد : "قال لي أحدهم أثناء التحقيق: نحن قتلنا كل الصحفيين ولم نقتل عدستك، لذلك سنكسر عينيك" وفعلوا، لكن الضوء ظل في روحه يفضح ظلامهم.

محمود أبو فول.. الظلام الذي أطفأ البصر

وهذا محمود من شمال غزة، خرج لا يرى شيئا. "فقدت بصري من شدة التعذيب، لم أعد أرى سوى صوتهم ، ثمانية أشهر من الضرب والإهانة، وأنا عاجز على قدم مبتورة. كانوا يضربونني حتى أغيب عن الوعي، ثم يعيدونني لأعيش الموت من جديد" ،من يسمع صوته لا يعرف إن كان يبكي أم يروي، كأن البكاء صار جزءا من الحكاية.

ثابت الفقعاوي.. الوقت المعلق بين القيد والعتمة

"ستة أشهر لم أرَ فيها الضوء، كنت مغمض العينين طوال الوقت. من يتحرك يُضرب، من يتنفس يُعاقب ، كنا ننام على الأرض بلا فراش، الطعام رديء، والماء ملوث، والهواء مليء بالخوف" هكذا وصف ثابت أيامه في السجن ، يقول إن الجوع كان وسيلة لإذلالهم، والوقت كان سلاحا ضد عقولهم.

أحمد التلباني.. حين يصبح الليل أداة تعذيب

"عام من التعذيب أنساني وجوه أطفالي ، كانوا يطلقون الكلاب فوق أجسادنا، طوال الليل، حتى صارت أصوات النباح تختلط بصراخنا" ، ثم يسكت قليلا، كأنه يعود إلى الزنزانة في ذاكرته، قبل أن يهمس: "كنا نعيش الموت البطيء كل لحظة"

منصور ريان.. حين يجبر الأسير على ضرب رفيقه

خرج منصور ريان من جحيم السجون وهو يحمل ذكرى لا تحتمل: "أجبرونا أن نضرب بعضنا بالأحذية لإذلالنا، ومن يرفض يُعاقب بالكهرباء. كانوا يمنعوننا من الصلاة، يسرقون بطانياتنا، ويجعلوننا ننام على الأرض الباردة ، كنت أسمع كل ليلة صراخا يشق الجدار، كأنه صوت الأرض حين تجلد" ، خرج منصور ليجد أن ابنه عبادة استشهد ، حتى الوداع سرقوه منا" قالها، فبدت كأنها خلاصة الحكاية كلها.

 إسلام أحمد.. حين يغتصب الجسد ويسحق الإنسان

"ما حدث في سديه تيمان يفوق الخيال ، جردونا من ملابسنا، أدخلوا العصي في أجسادنا ، رأيت زملائي تكسر أيديهم عمدا. كانوا يخبروننا أن عائلاتنا استشهدت ليموت الأمل فينا ،رأيت رجالا حاولوا الانتحار من شدة الإهانة" ، يقولها كمن خرج من عالم لا يشبه البشر.

هذا مجرد غيض من فيض، فهناك حكايات لم تُروَ بعد، وروايات تفوق الخيال قسوة ووجعا. لكن في النهاية...

من يصغي إليهم لا يسمع قصصا، بل يسمع أنين وطن بأكمله عالق خلف القضبان. كل أسير خرج من الصفقة لم يخرج حرا تماما، لقد خرج شاهدا على جريمة ما زالت مستمرة.

خرجوا ليقولوا للعالم: "الحرية ما كانت هدية، والألم ما كان صدفة ، نحن شهود على زمن سقطت فيه إنسانية العالم، وبقينا نحن أحياء فقط لأننا تمسكنا بالكرامة" .

هذه هي حكايات من خرجوا أحياء من الجحيم رووا لنا ما استطاعت الكلمات أن تحتمل، وما لم تستطع الصمت أن يخفيه. لكن إن كانت هذه روايات من عادوا، فماذا عن أولئك الذين ما زالوا هناك؟!

ماذا عن قادة الحركة الأسيرة الذين يواجهون العزل والحرمان بصبر أسطوري منذ عقود؟!

عن الأسرى الذين يتوقع أن يحكموا بالمؤبدات، وعن أسرى النخبة أولئك الذين لم يروا الضوء منذ عامين كاملين؟!

عن أسرى غزة الذين اعتقلوا قبل السابع من أكتوبر، وانتهت محكومياتهم، لكنهم ما زالوا غائبين في دهاليز الزنازين والمعتقلات، لا يعرف عنهم شيء منذ ذلك اليوم؟!

عن الأطفال والنساء ، وعن المخفيين قسرا الذين لا يعرف مصيرهم، ولا حتى تذكر أسماؤهم؟!

عن كل من صار رقما في ملفات مغلقة، أو ظلا في الذاكرة؟!

عمن خطفوا بعد الحرب، ولم تعلن أسماؤهم، ولم ترسل عنهم رسالة واحدة؟!

عن المرضى الذين تتآكل أجسادهم ببطء، من دون دواء، من دون نوم، من دون صوت يسمع أنينهم؟

أسئلة تتكاثر، وصمت ثقيل يبتلع الإجابات ، ما مصيرهم؟ ما شكل وجوههم الآن؟ هل ما زالوا قادرين على الحلم؟ هل يعرف العالم أن خلف كل جدارٍ هناك إنسان ينتظر أن يُعاد إليه اسمه؟

 

أخبار مشابهة