الأسير أمجد عبيدي يودّعه نور وجه أمه...
الأسير أمجد أحمد عيسى عبيدي من بلدة زبوبا غرب جنين، معتقل منذ عام 2003 ومحكوم بـ 23 مؤبداً...
في أرضٍ لا تعرف السكون، يولد الأسرى الفلسطينيون كأنهم شهودٌ دائمون على ثمن الحرية. هم أبناء هذا الوطن الذي علّمهم أن المقاومة ليست خيارًا، بل قدرٌ يُكتب على جبين كل من رفض الخضوع للاحتلال. خلف الجدران التي حاولت عزلهم عن الحياة، ظلّوا أوفى للذاكرة، وأشدّ ارتباطًا بالأرض التي حملوا من أجلها القيود.
لم تكن سنواتهم في السجن مجرّد وقتٍ ضائع من العمر، بل فصولًا من كفاح طويل دفعوا فيه هم وعائلاتهم ثمن الصمود، في مواجهة محاولاتٍ لا تنتهي لكسر الإرادة ومحو الانتماء. في كل بيتٍ أسير، تُروى حكاية غيابٍ مؤلم ووفاءٍ لا يذبل. فالأسير لا يُعاقَب وحده، بل تمتد القيود إلى أسرته وأطفاله الذين يكبرون على وعد اللقاء المؤجل، وإلى أمه التي تمسح دمعتها بصبرٍ يليق بالأرض. هؤلاء الأسرى لم يختاروا الغياب حبًّا في السجن، بل لأنهم رفضوا أن يعيشوا في وطنٍ محتل، فحملوا حريته في قلوبهم حين صادروها من أجسادهم.
ومن بين هؤلاء الذين صنعوا من الألم رايةً للمقاومة، تبرز حكاية الأسير المقدسي أيمن الشرباتي، الملقب بـ "المواطن"، الذي قضى سبعةً وعشرين عامًا خلف القضبان، ودفع من عمره وصحته ثمناً لمواقفه الراسخة وكرامته التي لم تنحنِ، حتى خرج أخيرًا إلى الحرية مُبعَدًا إلى مصر، تاركًا خلفه أبناءً كبروا على غيابه وزوجةً لم يعرفها إلا في سبع سنين من العمر.
من القدس إلى الزنزانة
في صباح 17 آذار/مارس 1998، اقتحمت قوات الاحتلال مدينة القدس واعتقلت أيمن الشرباتي، وكان حينها في مطلع الثلاثينيات. منذ اللحظة الأولى، وُجّهت إليه أحكام قاسية وصلت إلى مئة عام. تنقّل بين نفحة وجلبوع وعسقلان ومجدو، وتعرّض للعزل الانفرادي أكثر من عشر مرات.
لكن أيمن لم يكن سجينًا عاديًا؛ في إحدى المرات، أشعل النار في علم الاحتلال داخل السجن احتجاجًا على الانتهاكات بحق الأسرى، فكان العقاب عزلاً جديدًا. ومع كل عزلة، كان يعتبر نفسه في جبهة مواجهة أخرى.
“المواطن”.. اللقب الذي صار هوية
لم يكن لقب “المواطن” مجرد اسم، بل موقف. كان أيمن يصرّ على مخاطبة السجان من موقع الندّية، يقول: “أنا المواطن، وأنت المحتل.” تحوّل هذا الإصرار إلى هويةٍ رمزية رددها الأسرى من بعده، وصارت صفة تلازمه حتى خارج السجن.
في الزنازين، لم يترك نفسه نهبًا للجمود. حصل على شهادة البكالوريوس، وأصدر كتابين عن تجربة الأسرى، مؤمنًا بأن الكلمة مقاومة، وأن الرواية الفلسطينية يجب أن تبقى حيّة لا يمحوها السجّان.
غياب العمر.. حكاية عائلة
وراء كل أسير عائلة تصمد بصمت. لم يعش أيمن مع زوجته وأطفاله إلا سبع سنوات. عند اعتقاله، كان ابنه علاء في الخامسة، ومحمد في الرابعة، وحنين في الثانية، وزوجته حامل بيارا التي لم يرها يومًا.
اليوم صار الأبناء كبارًا. علاء، الذي صار باحثًا في القانون الدولي، يقول: “أنهيت كل مراحل حياتي دون أن يحضر أبي لحظة واحدة من فرحي.” أما يارا، التي لم يعرفها والدها إلا من خلف القضبان، فقد أصبحت أمًا لطفل، تحمل صورة أبيها كأساس لذاكرة لم تعشها لكنها ورثتها.
بعد حرب السابع من أكتوبر 2023، انقطعت أخبار أيمن كليًا. تقول العائلة بقلق: “آخر ما عرفناه أنه تعرّض للضرب والعزل، لكننا لا نعرف أين يُحتجز ولا حالته الصحية.” الغياب هنا كان مضاعفًا: غياب الجسد، وغياب الخبر.
الحرية المنقوصة.. إبعاد إلى القاهرة
في 2025، وبعد ٢٧ عامًا من الاعتقال، خرج أيمن الشرباتي ضمن اتفاق تبادل الأسرى، لكن خروجه كان مشوبًا بالمرارة: أُبعد إلى مصر، بعيدًا عن القدس التي وُلد فيها، وبعيدًا عن أبنائه الذين كبروا على غيابه.
في لحظة الإفراج، قال بصوتٍ متهدّج:
“تحية لأهل غزة ولصمود مقاومتها المشرف. الاحتلال لن ينال منا، وسنبقى شامخين وصامدين.”
خرج من بوابة السجن ليجد نفسه في منفى إجباري. الحرية التي حلم بها جاءت ناقصة، لكنها لم تُفرغ تجربته من معناها. بقي أيمن المواطن، الذي يرى في كل شبر من حياته دليلًا على أن الكرامة لا تُباع.
أيمن كصوت لجيل كامل
أيمن الشرباتي ليس استثناءً. أكثر من ٧ آلاف أسير فلسطيني ما زالوا خلف القضبان، بينهم مئات من المقدسيين الذين يتعرضون لأحكام طويلة وسياسات عزل وإبعاد. قصته تذكير بأن السجون الإسرائيلية ليست أماكن اعتقال فقط، بل أدوات لتفتيت المجتمع الفلسطيني عبر ضرب العائلات والأجيال.
من زنزانة في مجدو إلى هواء القاهرة، يحمل أيمن رسالة واضحة: الحرية لا تُقاس بالمكان، بل بالموقف. فقد عمره خلف القضبان، لكنه لم يفقد يقينه، وبقي يقول:
“فقدنا أعمارنا، لكننا لم نفقد الطريق. هنا فلسطين، وهنا يبدأ كل معنى للحرية.”
قصة أيمن الشرباتي تعيد صياغة المعادلة الفلسطينية: قد يُسجن الجسد، قد يُعزل الصوت، قد يُنفى الإنسان، لكن الكرامة تبقى عصيّة على الكسر. الحرية عنده لم تكن لحظة خروج من السجن فقط، بل فعل مقاومة يومي عاشه طوال ٢٧ عامًا، وحمله معه إلى منفاه.
إنه “المواطن” الذي صار رمزًا لأجيال من الأسرى، وصوتًا يقول للعالم: الحرية تُنتزع، ولا تُقاس بعدد السنوات خلف القضبان، بل بقدرة الروح على أن تبقى واقفة مهما اشتد القيد
الأسير أمجد عبيدي يودّعه نور وجه أمه، ويتركه لعتمة...
20 نوفمبر 2025
أسرى على حافة المؤبّد… وجوهٌ تجرّحها المحاكم وتضمّ...
17 نوفمبر 2025
يحيى الحاج حمد… المؤبد الذي يكتب الشعر من وراء الج...
13 نوفمبر 2025
أيمن سدر.. ثلاثون عامًا من الأسر وذاكرة الوطن التي...
12 نوفمبر 2025
الحرية المؤجلة: أمّ معاذ... حين يصبح الصبر موروثًا...
10 نوفمبر 2025
الرواتب الثمن المُرّ: في حرب أرزاقهم، الأسرى يدفعو...
8 نوفمبر 2025
الأسير أمجد أحمد عيسى عبيدي من بلدة زبوبا غرب جنين، معتقل منذ عام 2003 ومحكوم بـ 23 مؤبداً...
هؤلاء الأربعة — عبد الله، باسل، محمود، ومحمد — ليسوا أرقامًا ولا ملفات، بل وجوه تحرسها عائ...
في الثالث من أكتوبر عام 2015، حين أُغلق الباب الثقيل خلفه، بدأ فصلاً جديدًا من الحكاية: حك...