تفاصيــل الخبـر

الاسير المحرر ايمن سدر

أيمن سدر.. ثلاثون عامًا من الأسر وذاكرة الوطن التي لم تُهزم

حين يُغلق باب الزنزانة، لا يُطفأ الضوء في قلوب الأسرى الفلسطينيين. هناك، في العتمة التي أرادها الاحتلال نهايةً، يبدأ فصل آخر من الحكاية؛ حكاية رجالٍ حملوا الوطن في صدورهم ودفعوا من أعمارهم ما يكفي لأجيال قادمة كي تظلّ راية الكرامة مرفوعة. هم أولئك الذين اختاروا طريقًا يعرفون صعوبته، وواجهوا السجن والعزل والحرمان بثباتٍ لا يلين.

سنوات طويلة مرّت، تغيّرت فيها الوجوه والمواسم، وبقي الأسرى شهودًا على ثمن البقاء في صف الحرية. وبينهم يبرز اسم الأسير المقدسي أيمن عبد المجيد سدر، الذي قضى ثلاثين عامًا في سجون الاحتلال، متنقلًا بين الزنازين ومقاومًا العزلة والقهر، قبل أن يخرج إلى النور مبعدًا إلى مصر، حاملاً ذاكرةً مثقلة بالتجربة والإصرار.

من أبو ديس إلى زنازين العتمة

وُلد أيمن سدر عام 1966 في بلدة أبو ديس شرق القدس، في بيتٍ بسيطٍ امتلأ بحبّ الوطن والإيمان بقدسية المقاومة. شبّ على الانتفاضة الأولى، وشارك في فعالياتها منذ نعومة شبابه، من المظاهرات في المسجد الأقصى إلى مواجهات الاحتلال في شوارع القدس. انتمى مبكرًا إلى حركة حماس، وشارك في تشكيل خلية عسكرية هدفت إلى أسر جنود إسرائيليين لمبادلتهم بالأسرى، وفي خضمّ تلك السنوات كان اسمه قد ارتبط بواحدة من أبرز العمليات النوعية في القدس عام 1994 ردًّا على مجزرة المسجد الإبراهيمي.

في الثالث عشر من أيار/مايو 1995، وأثناء عودته من قطاع غزة، اعتُقل على حاجز بيت حانون، ونُقل إلى مركز تحقيق “المسكوبية”، حيث تعرّض لتعذيبٍ قاسٍ استمر لأكثر من خمسة أشهر. وفي اليوم الرابع لاعتقاله، اقتحمت قوات الاحتلال منزله في أبو ديس، فدمّرت محتوياته ومزّقت المصاحف وصادرت الوثائق والصور العائلية.

بعد محاكمةٍ عسكرية قاسية، حُكم على سدر بالسجن المؤبد مضافًا إليه ثلاثون عامًا، ليصبح أحد عمداء الأسرى المقدسيين وأقدمهم في سجون الاحتلال.

 

ثلاثون عامًا... والعائلة في الانتظار

منذ لحظة اعتقاله، تغيّرت حياة عائلته بالكامل. ترك أيمن خلفه زوجته الشابة وابنه الوحيد محمد، الذي لم يكن قد تجاوز عمره أربعة أشهر.

تقول زوجته: “عشت مع أيمن سنةً وأحد عشر شهرًا فقط، ثم بدأت رحلة الغياب الطويل. كبر محمد وهو يراه من وراء الزجاج، واليوم صار عمره ثلاثين عامًا، تساوي تمامًا سنوات اعتقال أبيه.”

في العام الماضي، تزوج محمد ورُزق بطفلة، لكن الجدّ الذي ضحّى بشبابه من أجل وطنه لم يرها بعد. تروي زوجته بأسى: “نعيش على أمل اللقاء، لكن الاحتلال حتى هذا الحقّ يسلبه منّا. سنوات مرتّ ونحن ننتظر اتصالًا أو زيارة، وقلوبنا معلّقة بخبرٍ مطمئن.”

سجنٌ لا ينكسر... ومقاومة لا تهدأ

على امتداد ثلاثة عقود، تنقّل أيمن بين أكثر من عشرة سجون، وخاض إضرابات متكررة عن الطعام احتجاجًا على العزل والتعذيب والإهمال الطبي.

ورغم قسوة الاعتقال، حوّل زنزانته إلى فضاء علمٍ وفكرٍ، فحصل على البكالوريوس في إدارة الأعمال والماجستير في الاقتصاد الإسلامي، وأصدر كتابًا بحثيًّا بعنوان «دراسات في الأسر» تناول فيه الحركة الأسيرة من منظور علمي نقدي، ليكون مرجعًا للأسرى والباحثين.

خلال حفل إشهار الكتاب في جامعة القدس، وصفه الأسير المحرر وليد الهودلي بأنه “باحث استثنائي كتب من قلب السجن بعقلٍ حرّ، وقدّم نموذجًا للوعي المقاوم الذي لا يُهزم حتى خلف الجدران”.

وجعٌ مضاعف ومعاناة لا تُرى

تعرض سدر على مدار سنوات الأسر لإهمالٍ طبي خطير؛ أُجريت له ثلاث عمليات جراحية، وأصيب خلال جائحة كورونا بجلطة رئوية حادة، ونُقل إلى العناية المكثفة.

تقول زوجته إن معاناته الصحية تفاقمت بعد الحرب الأخيرة، ومع منع الزيارات وانقطاع أخبار الأسرى، “عشنا حالة رعبٍ حقيقية، كنا نخشى أن نفقده دون أن نعرف. آخر ما نقل لنا المحامي أنه في سجن جانوت، يعاني من الجيوب الأنفية والتجويع والتضييق في ساعات الفورة، لكنه يتعمّد إخفاء أوجاعه حتى لا يقلقنا.”-

في كل كلمةٍ من كلماتها، يتجلى عمق الثمن الذي دفعته العائلة. فبين انتظارٍ ممتدّ لثلاثة عقود، وقلقٍ لا يهدأ، تظلّ صورة أيمن حاضرة في بيتهم كرمزٍ للثبات والإيمان بعدالة القضية.

من ظلمة السجن إلى هواء الحرية

في أكتوبر/تشرين الأول 2025، كان المشهد مختلفًا؛ خرج أيمن سدر إلى الحرية أخيرًا بعد ثلاثين عامًا من الاعتقال، ضمن صفقة “طوفان الأحرار الثالثة”، ليُبعد إلى مصر بدلاً من عودته إلى القدس.

كانت لحظة اللقاء بابنه محمد تختصر ثلاثين عامًا من الصبر، حين التقت نظراتهما للمرة الأولى بلا قضبان. رفع أيمن يده بتحيةٍ عسكرية لأهل غزة وشعبه، شاكرًا لهم صمودهم ومقاومتهم، قبل أن يعانق ابنه الذي صار شابًا يشبهه في الملامح والصلابة.

ذلك العناق لم يكن مجرّد مشهدٍ عاطفي، بل وثيقة جديدة من وثائق الكفاح الفلسطيني — أن الأسرى لا يُهزمون، وأن الاحتلال مهما طال عمره، لا يستطيع أن يحبس الروح التي ولدت حرة.

الحرية التي لا تُنسى

قصة أيمن سدر هي مرآةٌ لجيلٍ كاملٍ من الأسرى الذين دفعوا أعمارهم في سبيل حرية وطنهم، وواصلوا الدفاع عن كرامة الإنسان الفلسطيني من داخل السجن كما من خارجه.

ثلاثون عامًا من الاعتقال لم تُطفئ إيمانه، بل جعلت منه شاهدًا على أن الاحتلال، بكل جبروته، عاجز عن كسر إرادة من آمنوا بفلسطين وطنًا لا يُباع ولا يُنسى.

في كل مرةٍ يخرج فيها أسيرٌ من ظلمة الزنازين، تولد الحرية من جديد في هذا الوطن الجريح.

أيمن سدر خرج بعد ثلاثة عقود، لكنه ترك خلفه آلافًا من الأسرى الذين ينتظرون اللحظة ذاتها — لحظة أن تُفتح الأبواب، وأن يعودوا إلى الحياة التي قاوموا من أجلها.

أخبار مشابهة