أيمن الشرباتي.. المواطن الذي لم تهزم...
حكاية الأسير المقدسي أيمن الشرباتي، الملقب بـ "المواطن"، الذي قضى سبعةً وعشرين عامًا خلف ا...
في ليلٍ يتكرر بلا نجوم، تتقدّم الجرافات الإسرائيلية كأنها امتداد لصوت الزنازين نفسها؛ جرافات تهدم الحجر وتفتح في القلوب نوافذ لا تُغلق. خلف الدخان المتصاعد من البيوت المهدّمة، تُطوى وجوه أخرى بصمت: وجوه الأسرى الموقوفين الذين لم تُنطق بحقهم الأحكام بعد، لكنّ مستقبلهم مكتوب سلفًا في أوامر العزل وملفات التحقيق وأروقة المحاكم العسكرية.
هؤلاء الشباب، الذين ضاقت عليهم غرف التحقيق، ضاقت على عائلاتهم البيوت أيضًا حين تحوّلت إلى ركام. ومع ذلك، بقيت قلوبهم تتسع لآية تحفظ، ورسالة تُهرّب، وذكرى تقاوم الفناء.
من بين هذا المشهد، أربع حكايات تُلخّص وجع جيلٍ كامل، وتكشف الوجه الإنساني لأسرى يقفون على حافة المؤبد.
عبد الله مساد… الشاب الذي حفظ النور في مكان لا يصل إليه الضوء
فجر الثلاثاء لم يكن عاديًا في كفردان غرب جنين. حين وصلت الجرافات، كان الليل معتمًا، والجنود ينتشرون فوق الأسطح كأنهم يراقبون تنفّس القرية. خلال دقائق، تحوّلت الـ110 مترًا التي كانت تضم 13 فردًا من عائلة مساد إلى كتلة من الحجارة.
على هذا الركام، وقف شقيقه حامد يرفع الحجارة كأنه يفتش عن أثر لعبد الله: سرير كان يدرس فوقه الهندسة، أو مصحف يقرأ منه، أو صوت أمّ توقظه للصلاة.
لكن عبد الله، الذي اعتُقل قبل عامين، لم يكن يبحث عن شيء. كان يفتح مصحفًا داخل زنزانة معتمة، وحفظ القرآن كاملًا في مكان لا يدخل إليه الضوء.
يقول شقيقه: “الهدم متوقّع… لكن الفراغ أثقل من الحجارة.”
باسل شحادة… ابن البيت الذي أُطفئ، ووالدٌ يحرس الغياب بيدٍ ترتجف
في عوريف جنوب نابلس، لم يطلع فجر الأربعاء؛ وُلد انفجار. زرع الاحتلال المتفجرات في منزل عائلة شحادة، وما إن وصل الوالد محمد شحادة حتى وجد حفرة كبيرة لا تشبه شيئًا من عمره الذي بناه حجرًا فوق حجر.
رفع الأب حجرًا عن حجر، وقال بصوت حاول أن يكون ثابتًا: “نحن طلاب آخرة… وما بيهزّنا شيء.” لكن يده المرتجفة كانت تقول الحقيقة الأخرى.
أما باسل، طالب الشريعة المعتقل منذ يونيو 2023، فقد سمع في التحقيق الأول حكمًا شفهيًا تكرر أمامه: “أربع مؤبدات وستون عامًا.”
لم يصدر الحكم بعد، لكن الكلمات كانت كافية لتسقط عليه كقيد دائم.
في السجن أصبحت صحته هشّة، يعاني من أمراض جلدية ونقص في وزنه. تقول والدته بصوت مثقَل بالغياب: “كان هادي… بدّه يكمل شريعة. اليوم مستقبله محكوم قبل ما يحكي القاضي.”
محمود سليط… خطوة مشلولة لا تُطفئ طريقًا مكتوبًا بالقدر
في طولكرم، حمل محمود اسمه عن شهيد سابق، كأنه ورث طريقه. صار مطاردًا، ثم قائدًا، ثم هدفًا أول.
بعد ثلاثة أشهر من المطاردة، أصيب برصاصتين في قدمه من مسافة صفر، ومنذ ذلك اليوم لم يعد قادرًا على ثنيها. يمشي فوق الألم كما لو كان يمشي فوق قدرٍ لا يمكن تفاديه.
دخل التحقيق لـ 75 يومًا:
عزل مطلق، أبواب تُغلق بلا رحمة، وأسئلة لا تنتظر جوابًا. عرض عليه المحققون صورة شقيقه الشهيد محمد وقالوا له:
“قتلناه. هدمنا البيت. دمّرنا السيارة.”
كانوا يكذبون، لكن الجرح لا يحتاج حقيقة كي يؤلم.
اليوم، يعاني محمود من جربٍ متكرر وآلام متواصلة، وتُمنع عائلته من توكيل محامٍ بسبب الأزمة المالية الناتجة عن قطع الرواتب.
تقول والدته: “اثنين من أولادي استشهدوا… والثالث أسير. وأنا فخورة فيهم… بس قلبي موجوع.”
أما هو، فيكتب من سجنه: “بالصفقة الجاي… بدي أسمي ابني محمد.” كأنه يعيد أخاه إلى الحياة بطريقة أخرى.
محمد شحرور… الابن الذي غاب، فغاب صوت أمّه معه
منذ اعتقاله في فبراير 2024، تعيش عائلة محمد شحرور في حالة انتظار معلّق.
ثمانية عشر شهرًا بلا زيارة، بلا صورة، بلا خبر واضح.
هُدم بيته بعد أيام من اعتقاله، ونُقل بين عدة سجون من دون أن تعرف والدته شيئًا عن حاله.
تقول: “سنة وثمن شهور… بنستنى أي خبر. صورة، صوت، أي شي.” ثم تصمت. وفي هذا الصمت تتكثّف كل احتمالات الغياب.
يخبر الأسرى المحررون العائلة: “صار أضعف شوي… بس صوته ثابت.” أما صوت أمّه، فصار يتهدج في كل ليلة من ثقل الانتظار.
محاكم جاهزة… قبل أن يدخل الأسير قاعتها
تجمع القصص الأربع خيط مشترك: منظومة محاكمات عسكرية تعمل كإجراء شكلي لا يَسع الحقيقة.
التوقيف الطويل، العزل، التحقيق القاسي، منع الزيارات، الضغط على العائلات، وهدم البيوت… جميعها تُستخدم قبل أن يجلس الأسير أمام القاضي.
في هذه المحاكم، يدخل المتهم محكومًا مسبقًا، ولا يتغير شيء في الجلسة سوى رقم السنوات.
الهدم لا يوقف القلب
قد تُهدم بيوتٌ وتُعزل زنازين، وقد تضيق المحاكم على العمر، لكن شيئًا واحدًا لا يمكن للاحتلال أن ينتزعه: قدرة الناس على إعادة البناء… وبناء أنفسهم من الداخل.
هؤلاء الأربعة — عبد الله، باسل، محمود، ومحمد — ليسوا أرقامًا ولا ملفات، بل وجوه تحرسها عائلات واقفة على الركام، وقرى تحملها الذاكرة والصلابة.
هم ليسوا أسرى ينتظرون حكمًا؛ هم بشر يصنعون معنى جديدًا للصبر، ويتركون خلف كل جدار مهدوم جملة تقول: “نحن هنا… وما زال الفجر ممكنًا.”
أيمن الشرباتي.. المواطن الذي لم تهزمه الزنازين
21 نوفمبر 2025
الأسير أمجد عبيدي يودّعه نور وجه أمه، ويتركه لعتمة...
20 نوفمبر 2025
يحيى الحاج حمد… المؤبد الذي يكتب الشعر من وراء الج...
13 نوفمبر 2025
أيمن سدر.. ثلاثون عامًا من الأسر وذاكرة الوطن التي...
12 نوفمبر 2025
الحرية المؤجلة: أمّ معاذ... حين يصبح الصبر موروثًا...
10 نوفمبر 2025
الرواتب الثمن المُرّ: في حرب أرزاقهم، الأسرى يدفعو...
8 نوفمبر 2025
حكاية الأسير المقدسي أيمن الشرباتي، الملقب بـ "المواطن"، الذي قضى سبعةً وعشرين عامًا خلف ا...
الأسير أمجد أحمد عيسى عبيدي من بلدة زبوبا غرب جنين، معتقل منذ عام 2003 ومحكوم بـ 23 مؤبداً...
في الثالث من أكتوبر عام 2015، حين أُغلق الباب الثقيل خلفه، بدأ فصلاً جديدًا من الحكاية: حك...