أسرى موقوفون على أعتاب المؤبد: حكايا...
بلغ عدد الأسرى الموقوفين في سجون الاحتلال والمتوقع أن تصدر بحقهم أحكام بالسجن المؤبد مدى ا...
في صالة باردة داخل مجمع ناصر الطبي، يتنفس الحزن في كل زاوية، وتختلط رائحة الموت برائحة الانتظار. مئات العائلات تجلس تحت ضوء باهت أمام شاشة كبيرة تعرض عليها صور الجثامين التي أعادها الاحتلال. تتسابق العيون بين صورة وأخرى، تتشبث الوجوه بالأمل الأخير، لعل ملامح حبيب ما تطل من بين الرماد.
لكن عبثا يحاولون، الوجوه مطموسة، الأجساد مشوهة، والملامح مفقودة، كأن الاحتلال أراد أن يقتلهم مرتين، مرة بالرصاص، ومرة بمحو أثرهم.
يجلس أنور أبو مصطفى في الصف الأول، رجل خمسيني أنهكه عامان من البحث، يقول بصوت يرتجف: "ثلاثة أيام وأنا أجي هنا، شاهدت أكثر من أربعين جثمان، بس ما لقيت ابني أحمد".
يبحث الأب بين الصور كما لو أنه يمسك بخيط حياة أخير، يمد يده للشاشة كأنه يلمس وجه ابنه، ثم يسحبها بخوف، فكل صورة تمر تزيد قلبه وجعا.
الاحتلال يواصل اعتداءه حتى بعد الموت، يشوه الأجساد، يسرق الأعضاء، ويمحو الملامح لتبقى العائلات حائرة، لا تجد طريقا للوداع ولا قبرا لتضع عليه وردة أو دمعة.
في القاعة ذاتها، أمهات يحدقن في الصور بعينين غارقتين في الدمع، يبحثن عن شامة على الوجه، عن إصبع، عن قطعة قماش يعرفنها، عن شيء يقول لهن هذا هو. لكن الصور لا تحمل وجوها، تحمل صرخات صامتة وجراحا مفتوحة وعيونا مقتلعة كأن الاحتلال أراد أن يمحو الإنسان من الجسد نفسه.
سلم الاحتلال 195 جثمانا، لكنها لم تكن جثامين عادية ، لقد كانت رسائل رعب ، نعم ؛ أجساد مقطعة، قرنيات مسروقة، كبد غائب، قلوب أفرغت من صدورها. وكأن الموت وحده لا يكفي، فاختاروا أن يسلبوا ما تبقى من الحياة داخلهم.
يقول الأطباء في ناصر: " نستقبلهم بلا أسماء، فقط رموز وأرقام غامضة، لا نعرف لمن تعود. نحاول أن نعيد لهم هويتهم بوسائل بدائية، من شكل الأسنان، أو طول الجسد، أو أثر على الكف" لكن الجريمة أعمق من أن تمحى بالرموز.
وزارة الصحة أطلقت رابطا إلكترونيا تعرض فيه صور الجثامين، لتتعرف العائلات على أحبتها. مشهد يشبه الجحيم، أم تبحث عن ابنها بين صور الموتى، أب يحدق في وجوه محترقة، وأخ يتمنى ألا يتعرف على أحد كي يظل الأمل حيا.
عائلة الزاملي كانت تظن أن الجثمان رقم 74 يعود لابنهم عز الدين، البنية تشبهه، الكتفان والرقبة والطول، لكنهم تراجعوا في اللحظة الأخيرة لأن لون الملابس الداخلية لم يكن له حتى التفاصيل الصغيرة صارت تنقذهم من اليقين الموجع.
تتكدس الجثامين في ثلاجات لا تكفي لأسبوع، ووزارة الصحة أعلنت أن من لا يعرف خلال عشرة أيام سيدفن في مقابر جماعية بخريطة تحفظ رقمه فقط ، وكأن الأرقام صارت هوية الفلسطيني الأخيرة حتى في موته.
في الخارج، تنتظر الستينية فاطمة إبراهيم منذ عامين خبرا عن ابنها محمد تقول وهي تلوح بصورة قديمة له: "ما بدي أكثر من أدفنه بإيدي، أزور قبره، وأحكي معه شوي ، بس الاحتلال حتى الحق هذا حرمني منه". أما فاطمة فها هي تجلس على كرسيها في صالة الانتظار، لا ترفع رأسها عن الشاشة، كلما ظهرت صورة جديدة همست: "يا رب يكون هو" وحين لا يكون، تهمس ثانية: "يا رب يكون بخير".
في الصفوف الخلفية، طلعت أبو مصطفى ما زال يبحث عن ابنه عبد الرحمن، الذي دخل الغلاف يوم السابع من أكتوبر ولم يعد. رأى صورا كثيرة، كل صورة تعيد له الألم من البداية. يقول: "أعرف كل تفصيل في ابني، بس ولا جثمان شفته بيشبهه. يمكن يكون بينهم، يمكن الاحتلال ما رجعه، يمكن ويمكن ويمكن ..." ويصمت بالنهاية لأن الاحتمالات أقسى من الكلام.
في غزة، حتى الموت له طعم الاحتلال، له جرح مفتوح لا يشفى، وله أمهات لا يملكن إلا أن ينتظرن الصور ليودعن أبناءهن من بعيد. هنا، كل رقم هو اسم مؤجل، وكل جثمان هو حكاية بيت مكسور وأم لم تنم منذ الحرب.
وهنا، في صمت المستشفيات، يعاد تعريف الإنسانية من جديد، أن تمنح الجثامين أسماءها، وأن تعيد للأمهات حق البكاء على قبور تعرفها.
أيمن الشرباتي.. المواطن الذي لم تهزمه الزنازين
21 نوفمبر 2025
الأسير أمجد عبيدي يودّعه نور وجه أمه، ويتركه لعتمة...
20 نوفمبر 2025
أسرى على حافة المؤبّد… وجوهٌ تجرّحها المحاكم وتضمّ...
17 نوفمبر 2025
يحيى الحاج حمد… المؤبد الذي يكتب الشعر من وراء الج...
13 نوفمبر 2025
أيمن سدر.. ثلاثون عامًا من الأسر وذاكرة الوطن التي...
12 نوفمبر 2025
الحرية المؤجلة: أمّ معاذ... حين يصبح الصبر موروثًا...
10 نوفمبر 2025
بلغ عدد الأسرى الموقوفين في سجون الاحتلال والمتوقع أن تصدر بحقهم أحكام بالسجن المؤبد مدى ا...
تُعدّ سياسة الحبس المنزلي التي يفرضها الاحتلال على الأطفال المقدسيين من أشدّ أشكال العقاب...
شهد المشهد القانوني الإسرائيلي، في مرحلة ما بعد حرب الإبادة على قطاع غزة، تصعيدًا تشريعيًا...