تفاصيــل الخبـر

الرواتب الثمن المُرّ: في حرب أرزاقهم، الأسرى يدفعون أعمارهم وأموالهم

كلما أحاطت قوات الاحتلال بمنزل فلسطيني، علم أنه وصل إلى اللحظة الحاسمة، وكلما شدّ القيد على يدي مطلوب للاحتلال، تيقن أن ساعة دفع الثمن قد حانت، الثمن الباهظ الذي سوف يدفعه من سني عمره وشبابه وصحته ومستقبله، لكن كل واحد منهم كان يعلم علم اليقين، قبل أن يخطو دربه ذاك، أنه في خطر محدق لا محالة، وأن ما ينتظره ليس سجاداً من الورد المفروش، بل أشواك وتضحيات، واختاره رغم ذلك راضياً قانعاً، وبعزم وتصميم، وفي عتمة الزنازين تنسلّ أيام الأسرى أمام أعينهم، وهم يحاولون بكل ما أوتوا أن يجعلوا منها شيئاً مؤثراً وذا معنى، وفي الخارج، كان أقل ما يمكن أن يكافأ به صبرهم ونضالهم، وأبسط استحقاقات تضحياتهم وتضحيات عائلاتهم، بعض المال الذي يكفيهم همّ السعي المستحيل، ويؤمن لأهلهم كرامة العيش الكفاف.

 "الرواتب" ولادة موؤدة

عام 1994، كانت السلطة الفلسطينية أمراً واقعاً ككيان سياسي فلسطيني نتج عن اتفاقية أوسلو، وتولت إدارة شئون المناطق التي منحت السيطرة عليها، وكان من بين تلك الشئون ملفات الرواتب، التي شملت رواتب للأسرى، كجزء رسمي معتمد وغير متغير من استحقاقات هذه الفئة، مثلها مثل الموظفين، وفاءً اهم واعترافاً بفضلهم وإكراماً لذويهم.

لكن، وعبر التغيرات السياسية والمصالح الفئوية، كانت ورقة الرواتب وسيلة للمقايضة والضغط والتأثير العنيف، وفقاً للظروف السائدة، وشهدت رواتب الأسرى كثيراً من الفترات السيئة بالاقتطاع والتأجيل والإلغاء وغيرها، وأخيراً توّجت هذه التأثيرات السلبية بالقرار الذي صدر في العاشر من فبراير 2025 بقطع رواتب أكثر من 1600 أسير، بطلب من الاحتلال، بحجة أنهم "مجرمون لا تجوز مكافأتهم"!

المخصصات ليست مالاً

طالما كان الراتب تجسيداً معنوياً لمعنى الانتماء والوفاء، في زمن تتكاثر فيه الضغوط السياسية والاقتصادية، وليس فقط قيمة مادية، فهو تقدير لمن غاب سنوات خلف القضبان دفاعاً عن حق الجميع في الحياة، وهو نفحة من الكرامة تربط عائلته بالوطن الذي ناضل من أجله.

وخلال المد والجزر السياسي الذي طال تلك المبالغ، أصبحت تضحية الأسرى عبئاً مالياً، ومنّة مشروطة، واستبدل حضن الوطن إلى نظام فرز جائر لتقرير أي المناضلين يستحق الإعانة! بحجج تحمل مسميات إدارية جامدة، وألفاظ رياضية جافة، كالموازنات المضغوطة"، و"العجز المالي".

 محررون إلى مصير مجهول

يغادر الأسرى زنازينهم بعد التحرر بفرحة تحتوي الأرض، وهم لا يكادون يصدقون أنهم نالوا حريتهم أخيراً، وفي غمرة هذا الإحساس الجديد بالحياة والانطلاق لتعويض مافاتهم من سنين ضائعة، تفاجئهم القرارات الصادمة بكونهم متروكين للمجهول دون عون أو دعم، في وقت هم في أمس الحاجة لكل عون، خاصة وأن أغلبهم في وضع صحي ونفسي غير طبيعي.

الأسير المحرر يسري الجولاني من الخليل ذاق مرارة الأسر مرتين، وقضى ٢٢ عاماً في سجون الاحتلال، فوجئ قبل خروجه من السجن بثلاثة أشهر، بتوقف راتبه بشكل مفاجئ، بقرار جاء دون سابق إنذار، ويقول إنه بعد تحرره ومراجعته للجهات المختصة أخبر أن السبب "أمني"، وقد تم نفي يسري إلى تركيا، حيث يعيش مع أسرته غلاءً لا يرحم، وقد سُدّ في وجهه باب الرزق، ويقول إنه سُلب معنى الأمان، بعد كل تلك السنوات من الأسر، وهو يجد نفسه يواجه حياة قاسية بلا مورد ثابت.

الناشطة الحقوقية أمينة الطويل، زوجة الأسير المحرر علي شواهنة، الذي أمضى ١٨ عاماً في السجون، تقول إن القرار زعزع استقرار مئات الأسر، وكأنه عقوبة إضافية، وتروي كيف اضطرت زوجات الأسرى إلى بيع بعض ممتلكات البيت لتأمين احتياجات أطفالهن، وتضم صوتها إليهن في المطالبة بتحرك حقيقي على الأرض يعيد للأسرى حقوقهم وكرامتهم، لا بيانات تضامن فقط.

كثير من الأسرى الذين تحرروا في صفقات طوفان الأحرار، يعانون نفس الوضع، فقد خرجوا يحملون أملاً بأن يجدوا وطناً يحتضنهم، لكنهم شعروا بطعنة مؤلمة حين علموا بقرار إيقاف رواتبهم، ما أثّر على استقرارهم النفسي والاجتماعي، وأصبحوا منشغلين بتأمين لقمة العيش لأطفالهم، بدل أن يواصلوا اندماجهم في المجتمع، وعبر أحدهم عن وضعهم بقوله: "اكتشفنا أننا أصبحنا ضحايا المال السياسي".

عائلات بلا مُعيل، ولا مُعين

في عتمة الزنازين، يدفع الأسرى ثمناً إضافياً قاسياً، بالقلق على عائلاتهم التي باتت بلا مصدر دخل يخفف عنها ألم غياب السند والمعيل، فصارت تحمل عبء الغياب وألم الحاجة، تقول زوجة أحد المعتقلين إن زوجها معتقل منذ أكثر من عام، وإنها تتحمل مسؤولية الأطفال وحدها، وتحاول توفير احتياجاتهم من أقساط التعليم، إلى مصروف الصيدلية والطعام والملابس، بلا راتب، وإن بيت أهل زوجها يضم أسيرين آخرين قطعت رواتبهما أيضاً، ومهما كان عدد من يحاول المساعدة، فإنه لن يكفي ليقيم بيتاً ويعيل أطفالاً، وتسأل بحسرة: "هل يُعقل أن يجوع الأطفال لأن والدهم أسير؟ وهل من العدل أن تعيش عائلات الأسرى على الصدقات بعد كل هذه التضحيات؟"

شقيقة الأسير معمر شحرور من طولكرم، تؤكد أنهم يعتبرون حقوق أبنائهم الأسرى قضية كرامة وطنية، لا مسألة مالية، وتقول إن الحفاظ على رواتبهم هو حفاظ على مكانتهم التي صنعوها بالدم والصبر، وقدموا أثمن ما يملكون، وأن حرمانهم من حقوقهم يمس جوهر العدالة والوفاء.

في زمن يكاد من يملك دخلاً مالياً ثابتاً ألا يتمكن من مجابهة قسوة الحياة ومتطلباتها، يكابد الأسرى قسوة العالم، مع قسوة العوز والحاجة، مع ما كابدوه أو يكابدونه من قسوة السجن، لكن ما يؤلمهم أكثر، قسوة الوطن الذي دفعوا لأجله حريتهم و أعمارهم.

أخبار مشابهة