أيمن الشرباتي.. المواطن الذي لم تهزم...
حكاية الأسير المقدسي أيمن الشرباتي، الملقب بـ "المواطن"، الذي قضى سبعةً وعشرين عامًا خلف ا...
الحرية في فلسطين ليست شعارًا يُرفع، ولا مطلبًا سياسيًا يُساوَم عليه، بل معركة وجودٍ تُخاض في كل يوم، وبكل وسيلة. إنها جوهر الحياة في وطنٍ يرزح تحت الاحتلال منذ عقود، حيث يولد الطفل وفي عينيه وعد الحرية، ويكبر المقاومون على قناعة أن طريق الخلاص لا يُعبّد إلا بالتضحيات.
في فلسطين، الحرية ليست مجرّد حقّ قانوني أو إنساني، بل هي مقياس الكرامة الوطنية، وامتحان الصبر الجمعي لشعبٍ آمن أن السجن قد يُقيّد الجسد، لكنه لا يستطيع أن يُطفئ الإيمان. فمن الزنازين إلى ساحات المواجهة، ومن أقبية التحقيق إلى مخيمات العودة، يكتب الفلسطينيون فصول حريتهم بأجسادهم، ويعلّمون العالم أن مقاومة الاحتلال فعل يوميّ يتجاوز السلاح إلى الوعي والإصرار والبقاء.
الأسرى هم أكثر من رموزٍ للصمود؛ إنهم مرآة هذا الشعب في أنقى صور نضاله، وحكايتهم ليست منفصلة عن حكاية الأرض والمقاومة. فكل صفقة تبادل تحمل بين طيّاتها معنى أعمق من إطلاق سراح أسرى؛ إنها استعادة لجزءٍ من الوطن الأسير، ودليل على أن الثمن المدفوع في سبيل الحرية لا يضيع.
وحين تفتح الزنازين أبوابها، لا يخرج الأسير وحده، بل يخرج معه الوطن الذي حمله في قلبه، والوجع الذي تحوّل إلى قوة. في تلك اللحظات، تتجسد الحرية في أبهى صورها: ليست منحة، بل انتصارٌ تحقّق بالصبر والإيمان والتضحيات.
محمد عبد الباسط الحروب، ابن قرية دير سامت غرب الخليل، واحد من هؤلاء الذين خطّوا سيرة الحرية بعرقهم وصبرهم. عاش قسوة العزل الانفرادي لسنوات، وحُكم عليه بأربعة مؤبدات، لكن إرادته لم تُكسر. وفي صفقة “طوفان الأحرار الثالثة”، خرج أخيرًا إلى النور، ليُصبح رمزًا للثبات والإيمان بجدوى الطريق، مهما طال الزمن.
سيرة أسير في زمن المقاومة
وُلد محمد قبل ثلاثين عامًا في محافظة الخليل، التي تُعد من أكثر المدن الفلسطينية التي قدّمت أسرى ومقاومين. في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، ومع هبّة العمليات الفردية، نفّذ عملية مزدوجة عند مفترق “عتصيون”، مستخدمًا بندقية “عوزي” ومركبته ضد جنودٍ ومستوطنين، ما أدى إلى مقتل وإصابة عدد منهم.
بعد ساعات من المطاردة، اعتُقل محمد وهو مصاب، ليبدأ رحلة طويلة من التحقيق والسجون. حُكم عليه بالسجن المؤبد أربع مرات، ونُقل بين سجون نفحة وريمون وعسقلان، قبل أن يستقر في عزل مجدو حيث أمضى سنواته الأخيرة في وحدة قاسية.
رحلة بين الزنازين والعزلة
العزل الانفرادي، كما يصفه الأسرى المحررون، ليس مكانًا فقط، بل كابوس متواصل. زنزانة ضيّقة، جدار رطب، سرير حديدي بارد، وضوء أصفر لا ينطفئ. هناك، كان محمد يقضي نهاراته يكتب بخط صغير على قصاصات الورق: آياتٍ من القرآن، وخواطرَ من الشعر، وملاحظاتٍ عن محاضراتٍ كان يُلقيها على نفسه.
ورغم ظروف العزل القاسية، أنهى محمد دراساته العليا، ونال درجة الماجستير في الشريعة الإسلامية بجهد ذاتي وبمساندة والده من خارج السجن. بعد حرب السابع من أكتوبر 2023، انقطعت أخباره تمامًا عن عائلته، فخيّم القلق على بيتهم في دير سامت، ولم يصلهم عنه شيء إلا ما يتسرّب من شهادات أسرى محررين.
كلمات لم تهزمها المحكمة
في إحدى جلسات محاكمته، سأله قاضٍ عسكري صهيوني ببرود:
«هل أنت نادم على ما فعلت؟»
فأجابه محمد بثباتٍ نادر:
«أنا فخور بما فعلت، وأتمنى أن أُكمل المشوار إن عاد الزمان بي.»
لم تكن الكلمات طويلة، لكنها اخترقت القاعة وأربكت من فيها. أدرك الاحتلال أن محمد، حتى وهو مكبّل، لم يُهزم.
أمّ تصبر على الغياب وتورّث الإيمان
منذ اعتقاله، عاش بيت الحروب تحت سيف المداهمات والعقاب. اعتُقل والده إداريًا، وهُدم المنزل انتقامًا من عملية ابنه. أما والدته، فظلت على إيمانها الراسخ، تقول لكل من يسألها:
«ابني محمد بطل، وقد أودعته إلى الله. عمر السجن ما سكّر بابه على أحد.»
رحل جدّه وجدّته وهو خلف القضبان، ولم يُسمح له بوداعهما، لكنه واصل تعلّمه وصموده كأنما يودّ أن ينتصر لهما بالعلم كما انتصر بالفعل.
الحرية... لحظة تتجاوز الفرد إلى الوطن
في أكتوبر/تشرين الأول 2025، خرج محمد عبد الباسط الحروب إلى النور ضمن صفقة “طوفان الأحرار الثالثة”. لحظة العناق الأولى مع والدته لم تكن مجرد لقاءٍ عائلي، بل مشهدًا وطنيًا اختصر معنى الحرية كلّها: دموع الأم، صلابة الابن، والجموع التي استقبلته بالزغاريد، جعلت التحرر حدثًا جماعيًا يتجاوز الفرد إلى الوطن.
محمد ليس استثناءً. خلف قضبان الاحتلال اليوم أكثر من سبعة آلاف أسير، بينهم مئات يقبعون في العزل الانفرادي، وعشرات يقضون أحكامًا بالمؤبد. قصته تعكس وجوههم جميعًا، وتذكّر أن الحرية حقّ جماعي، لا منّة فيه لأحد.
من زنزانةٍ بلا نافذة إلى ساحة الحرية، يقدّم محمد عبد الباسط الحروب شهادة حيّة على أن السجن لا يقتل الروح، وأن الاحتلال مهما شدّد عقوباته، سيبقى عاجزًا عن كسر إرادة الفلسطيني.
إنها حكاية أمٍّ صابرة، وبلدةٍ تنزف أبناءها، وشعبٍ يرى في أسراه طليعةَ الحرية.
قصة تقول للعالم بصوت محمد:
«هنا شعبٌ لا يُهزم، وهنا قضية لا تموت.»
أيمن الشرباتي.. المواطن الذي لم تهزمه الزنازين
21 نوفمبر 2025
الأسير أمجد عبيدي يودّعه نور وجه أمه، ويتركه لعتمة...
20 نوفمبر 2025
أسرى على حافة المؤبّد… وجوهٌ تجرّحها المحاكم وتضمّ...
17 نوفمبر 2025
يحيى الحاج حمد… المؤبد الذي يكتب الشعر من وراء الج...
13 نوفمبر 2025
أيمن سدر.. ثلاثون عامًا من الأسر وذاكرة الوطن التي...
12 نوفمبر 2025
الحرية المؤجلة: أمّ معاذ... حين يصبح الصبر موروثًا...
10 نوفمبر 2025
حكاية الأسير المقدسي أيمن الشرباتي، الملقب بـ "المواطن"، الذي قضى سبعةً وعشرين عامًا خلف ا...
الأسير أمجد أحمد عيسى عبيدي من بلدة زبوبا غرب جنين، معتقل منذ عام 2003 ومحكوم بـ 23 مؤبداً...
هؤلاء الأربعة — عبد الله، باسل، محمود، ومحمد — ليسوا أرقامًا ولا ملفات، بل وجوه تحرسها عائ...