
من الإعدام البطيء إلى المقصلة العلني...
لم يكن مشروع قانون إعدام الأسرى وليد اللحظة، بل طرح مرارا خلال السنوات الماضية، مما يعكس ت...
في أزقة مخيم جنين التي ما زالت تعبق بدخان المعارك وأنين الثكالى، تتناثر بيوت مهدمة تشهد على حكايات الفقد والنزوح. هنا، في المكان الذي أنجب الأبطال وصاغ وجدان المقاومة، تتقاطع المآسي اليومية مع صمود لا يعرف الانكسار.
عائلة الأسير الشيخ بسام السعدي تجسد صورة هذا الثبات؛ أسرة دفعت أعمارها بين قضبان السجون وممرات المحاكم العسكرية، فغاب الأب وراء القضبان، والتحق الأبناء بسجلات الأسرى، تاركين وراءهم بيتاً خاوياً إلا من الذكريات.
لم تعد زوجته تميز بين سنوات الاعتقال ومحطات الفقد، إذ سرق الاحتلال زمنها وزمن أسرتها، وشتت أبناءها بين الزنازين والمنافي. واليوم، وبعد أن أُجبرت العائلة على مغادرة المخيم الذي كان لهم وطناً وذاكرة، تقف الأم شامخة رغم الخسارات، تترقب بلهفة أي خبر عن زوجها وأبنائها، بين أمل اللقاء ووجع الغياب. إنها حكاية عائلة تختصر وجع المخيم كله، وتعيد سرد قصة وطن يقاوم رغم كل الجراح.
الشيخ بسام السعدي.. مسيرة نضال بـ 18 عاماً وراء القضبان
ولد بسام راغب عبد الرحمن السعدي في مخيم جنين شمالي الضفة الغربية يوم 23 ديسمبر/كانون الأول 1960، وعاش طفولته وشبابه في المخيم حيث تلقى تعليمه في مدارس وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). عايش ظروف المخيم الصعبة منذ نعومة أظفاره، وشهد على مآسي شعبه التي شكلت شخصيته وكفاحه. التحق بجامعة إيطالية لدراسة الطب لكن ظروفاً خاصة أجبرته على العودة ليكمل دراسة المحاسبة في الجامعة الأردنية، حيث تخرج محاسباً لكن ظروف الوطن ونداء الواجب جعلاه ينخرط في العمل الوطني منذ شبابه.
انضم السعدي لحركة الجهاد الإسلامي بعد عودته من الأردن، وبرز اسمه عندما أبعدته سلطات الاحتلال مع 415 فلسطينياً من حركتي حماس والجهاد إلى مرج الزهور في جنوب لبنان أواخر 1992. يعتبر الشيخ بسام شخصية اجتماعية ورجل إصلاح يحظى بعلاقات قوية مع كل مكونات المخيم، مما جعله هدفاً دائماً للاحتلال الذي يعتبره "مسؤول الحركة في شمال الضفة الغربية". طوال مسيرته النضالية، ظل الشيخ السعدي مؤمناً بحق شعبه في الحرية والكرامة، مدافعاً عن قضيته بكل ما أوتي من قوة.
المعاناة الصحية والاعتقال الإداري
تعرض الشيخ بسام للاعتقال لأكثر من 18 عاماً مجتمعة في سجون الاحتلال، كانت غالبها اعتقالات إدارية دون تهم محددة أو محاكمة. في اعتقاله الأخير (أغسطس 2022)، تعرض لاعتداء عنيف أدى إلى إصابته بجرح في رأسه، كما يعاني من أمراض في المعدة وآلام نتيجة وجود دسكات في ظهره، ويمنع من العلاج المناسب. تدهورت حالته الصحية بشكل كبير خلال فترة اعتقاله الأخيرة، حيث يعاني من آلام مبرحة تمنعه من النوم لساعات متواصلة، دون أن تقدم له إدارة السجن الرعاية الطبية اللازمة.
الأبناء: بين الشهادة والأسر.. تضحيات متوارثة
في عام 2002، فقدت العائلة نجليها التوأمين عبد الكريم وإبراهيم (16 عاماً) خلال اقتحام مخيم جنين، وكانا ناشطين في سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي. كما استشهدت والدة الشيخ بسام بين يدي الجنود عندما أخبروها كذباً بقتل ابنها ودعوها لمعاينة الجثة، فصدمت وتوفيت على الفور. لم تكن هذه الخسائر سوى جزء من سلسلة التضحيات التي قدمتها العائلة، والتي ظلت صامدة رغم كل الآلام.
لا يزال الابنان يحيى وصهيب رهن الاعتقال الإداري، حيث اعتقل يحيى في 7 فبراير/شباط 2024 ويحتجز في سجن مجدو، بينما يعتقل صهيب في سجن آخر. وقد تعرضا لاعتقالات سابقة متفرقة. كما اعتقل الابن عز الدين وفتحي مرات عديدة، مما يعني أن الاحتلال طال كل أبناء العائلة. يعاني الأبناء الأسرى من ظروف اعتقال قاسية، حيث يمنعون من زيارة أهاليهم ويتعرضون للتعذيب والإهمال الطبي المتعمد.
الزوجة والأم: نوال السعدي.. تتحمل الآلام وتواصل الصمود
تعرضت زوجة الأسير السعدي "نوال السعدي" (أم إبراهيم) لمرارة الاعتقال، حيث أمضت ثلاث سنوات في سجون الاحتلال. عانت من الأمراض نتيجة الاعتقالات المتعددة وخضعت لعملية استئصال جزء من الرئة، كما تعاني من أمراض الضغط والديسك وآلام الظهر. رغم كل هذه الآلام، ظلت الأم الحنون تحافظ على رباطة جأشها، متمسكة بالأمل في لقاء زوجها وأبنائها.
رغم كل هذه الظروف القاسية، تواصل الأم الصمود والحفاظ على بقاء العائلة متماسكة. تقول: "35 عاماً والاحتلال يقارعنا ونحن نقارعه، عائلتي ناضلت وضحت، قدمنا الشهداء". تقوم الأم بدور بطولي في رعاية أحفادها ومواصلة مسيرة العائلة، رغم الغياب المؤلم لزوجها وأبنائها. تواجه تحديات يومية كبيرة في توفير متطلبات الحياة الأساسية، لكنها ترفض الاستسلام وتواصل النضال بكرامة وإباء.
تفاصيل الاعتقال الأخير: جريمة إنسانية هزت الضمير العالمي
في مساء الأول من أغسطس/آب 2022، اقتحمت قوات الاحتلال منزل عائلة السعدي في مخيم جنين بعنف غير مسبوق. وفقاً لرواية العائلة، تعرض الشيخ بسام لضرب وحشي مما تسبب في إصابته بجرح غائر في رأسه نزف منه دماً غزيراً. ظل الشيخ ينزف لساعات دون تقديم أي علاج له، وظهرت آثار الدماء في جميع أنحاء المنزل. حاولت قوات الاحتلال إخفاء معالم الجريمة بتنظيف المكان، لكن آثار الدماء بقيت شاهدة على الوحشية التي مورست بحق الشيخ المسن.
ردود الفعل المحلية والدولية
أثارت طريقة الاعتقال العنيفة غضباً واسعاً، حيث طالبت عائلة السعدي بتشكيل لجنة طبية للكشف عن وضعه الصحي. كما زارت المندوبة الخاصة عن مكتب مبعوث الأمم المتحدة للشئون السياسية وحقوق الإنسان، جودي بارت، منزل العائلة للوقوف على تفاصيل الحادث. أدانت العديد من المنظمات الحقوقية الدولية الاعتداء الوحشي، وطالبت بمحاسبة المسؤولين عن هذه الجريمة التي تنتهك كل المواثيق والقوانين الدولية.
أدى اعتقال السعدي إلى موجة من التصعيد بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي، حيث شنت إسرائيل غارات على قطاع غزة استمرت 3 أيام، استشهد خلالها 46 فلسطينياً بينهم أطفال ونساء. شكل الاعتقال نقطة تحول في المشهد السياسي والأمني، مما يؤكد الأهمية الكبيرة للشيخ السعدي كرمز من رموز النضال الفلسطيني.
النزوح: تهجير قسري وحرمان من الاستقرار
لم تكتفِ سلطات الاحتلال باعتقال أفراد العائلة، بل أجبرتهم على مغادرة منزلهم في مخيم جنين إلى بلدة برقين. انتقلت العائلة من منزل مستقل إلى منزل مستأجر، مضطرين لتحمل أعباء إضافية في ظل الظروف المعيشية الصعبة. يعني النزوح بالنسبة للعائلة فقدان الجذور والذاكرة والأمان، حيث تركت وراءها كل ذكرياتها وحياتها في المخيم.
تعرض منزل العائلة للقصف والهدم أكثر من مرة، حيث دمرته قوات الاحتلال خلال اجتياح مخيم جنين عام 2002 بعدة صواريخ. لم يسلم حتى حجارة المنزل من انتهاكات الاحتلال، مما يعني أن العائلة فقدت ليس فقط أفرادها، بل أيضاً ذاكرتها وممتلكاتها التي ترمز إلى تاريخها وجذورها. يعتبر تدمير المنزل جزءاً من سياسة منهجية تهدف إلى محو الهوية الفلسطينية وطمس معالمها.
صمود في وجه العاصفة
عائلة الأسير الشيخ بسام السعدي تمثل نموذجاً مصغراً للمعاناة الفلسطينية تحت الاحتلال. استهداف متعمد لكل أفراد العائلة من الأب إلى الأبناء، وحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية في العلاج والاستقرار والعيش الكريم. رغم كل هذه التحديات، تظل العائلة صامدة ترفض الاستسلام، تنتظر بصبر أيوبي حرية قريبة وعودة إلى بيتهم وذكرياتهم.
تبقى قضية الشيخ بسام السعدي وعائلته تذكر العالم بأن الاعتقال الإداري دون تهمة أو محاكمة هو انتهاك صارخ للقانون الدولي، وأن معاناة الأسرى الفلسطينيين ليست مجرد أرقام، بل هي قصص إنسانية مليئة بالألم والتحدي والصمود. في الوقت الذي تستمر فيه هذه المعاناة، تبقى الحقيقة الثابتة أن الشمس لا يمكن أن تحجب بأصابع الظلام، وأن صوت الحرية سيعود ليعلو فوق كل أصوات القهر والاحتلال.
رغم كل هذه الآلام، تواصل عائلة الشيخ بسام السعدي مسيرتها بإصرار. فالمخيم الذي أنجبها علّمها أن الصبر هو سلاح الضعفاء، وأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع. قصة هذه العائلة ليست مجرد تفاصيل اعتقالات أو نزوح، بل هي مرآة لمعاناة الفلسطينيين جميعاً تحت الاحتلال، ورسالة بأن الصمود يمكن أن يتحول إلى إرث تنتقله الأجيال.
في النهاية، تبقى صورة الشيخ بسام خلف القضبان، وزوجته بين الأحفاد، وأبناؤه بين الشهادة والأسر، لوحة مكتملة لفلسطين: وطن يدفع ثمن الحرية جيلاً بعد جيل، لكنه لا ينحني ولا ينكسر.
بسام شحرور: حكاية صمود في زنازين الصمت
4 أكتوبر 2025من الإعدام البطيء إلى المقصلة العلنية: إسرائيل تشر...
2 أكتوبر 2025الأسيرة المحررة رماء بلوي: وجع الأمومة خلف القضبان
1 أكتوبر 2025مقعدٌ فارغ ودرسٌ مؤجل لطلابٍ خلف الزنازين
1 أكتوبر 2025الأسيرة كرم موسى، تحارب الدامون ببراءة الأحفاد
29 سبتمبر 2025سجن جلبوع: من القلعة الأمنية إلى مسرح الجريمة المن...
29 سبتمبر 2025لم يكن مشروع قانون إعدام الأسرى وليد اللحظة، بل طرح مرارا خلال السنوات الماضية، مما يعكس ت...
اعتقال طلاب المدارس لم يعد حالة فردية، بل تحوّل إلى سياسة ممنهجة يمارسها الاحتلال بشكل يوم...
عملت مؤسسة العهد الدولية على توثيق شهادات عائلية مباشرة لعدد من الأسرى من أصحاب المؤبدات و...