
بسام السعدي.. أسير يقاوم خلف القضبان...
تعرض الشيخ بسام للاعتقال لأكثر من 18 عاماً مجتمعة في سجون الاحتلال، كانت غالبها اعتقالات إ...
في المشهد القاتم لمنظومة الاعتقال الإسرائيلية، يبرز اسم "جلبوع" رمزا مكثفا لسياسة القمع الممنهج التي ينتهجها الاحتلال. هذا السجن، الذي تسوّق كـ "الخزنة الحديدية" التي لا تقهر، تحول على مر السنين إلى مسرح تتكشف فيه فصول مأساة إنسانية عميقة، حيث تتلاقى عبقرية الهندسة الأمنية مع وحشية الممارسة اليومية. الهدف من إنشائه عام 2004 لم يكن مجرد احتجاز الأسرى الفلسطينيين "الأخطر"، إنما مشروع متكامل يهدف إلى هندسة الوعي، وكسر الإرادة، وفرض حالة من اليأس المطلق.
هذا التقرير يسعى إلى تشريح هذه القلعة الأمنية، والغوص في أعماقها لكشف الحقائق التي تحاول الجدران السميكة والكاميرات المتطورة إخفاءها. سنستمع إلى صرخات الأسرى التي تتسرب من خلف القضبان عبر شهادات حية ومؤلمة، ونحلل كيف تحولت أدوات الرقابة إلى أدوات انتقام، وكيف أصبح الإهمال الطبي سلاحا للقتل البطيء. سنروي قصة "نفق الحرية" نقطة تحول كشفت هشاشة القوة الغاشمة أمام إرادة الإنسان. وفي الختام، سنضع هذه الجرائم تحت مجهر القانون الدولي، لنؤكد أن ما يحدث في جلبوع جرائم حرب مكتملة الأركان تستدعي مساءلة دولية عاجلة.
البانوبتيكون الإسرائيلي – هندسة القمع الحديثة
عند سفح جبل جلبوع، في منطقة غور بيسان، قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتحويل مركز شرطة بريطاني قديم إلى ما سيُعرف لاحقاً بأنه أحد أكثر السجون رعباً وحصانة. لم يكن اختيار الموقع عشوائياً، فهو يقع في منطقة معزولة نسبياً، مما يعقد أي محاولة للتواصل مع العالم الخارجي. التصميم، الذي شارك في إعداده خبراء أيرلنديون، استلهم بشكل واضح فكرة "البانوبتيكون" التي وضعها الفيلسوف جيرمي بنتام في القرن الثامن عشر. تقوم هذه الفكرة على بناء سجن دائري يتوسطه برج مراقبة، بحيث يشعر السجناء بأنهم مراقبون على الدوام دون أن يتمكنوا من رؤية الحارس. الهدف هو خلق حالة من "الرقابة الذاتية" القسرية، حيث يصبح السجين سجّان نفسه، خوفاً من عقاب قد يأتي في أي لحظة.
لكن في جلبوع، تم تحديث هذه الفكرة وتطويرها بأدوات القرن الحادي والعشرين. استُبدل برج المراقبة المادي بشبكة معقدة من الكاميرات وأجهزة التنصت التي تخترق كل زاوية وركن في السجن، من الزنازين إلى الساحات وحتى الحمامات، مما يلغي أي مساحة للخصوصية. وتحولت الأقفال والمفاتيح التقليدية إلى نظام إغلاق وفتح إلكتروني مركزي، يتحكم فيه السجان من غرفة بعيدة ليتحول السجن إلى ما يشبه القفص الإلكتروني.
لقد بالغت سلطات الاحتلال في الترويج لهذه التحصينات، وتحدثت عن جدران إسمنتية معززة بالفولاذ، وعن قضبان "حديد نفحا" التي لا يمكن نشرها، وعن طبقة "سرية" تحت أرضيات السجن يتغير لونها عند الحفر. كل هذه الدعاية كانت جزءاً من حرب نفسية تهدف إلى زرع اليأس في نفوس الأسرى وإقناعهم باستحالة التفكير في الحرية. لكن هذه الثقة المفرطة بالقوة التكنولوجية كانت هي نفسها نقطة الضعف القاتلة، حيث ولدت شعوراً زائفاً بالأمان لدى السجانين، ودفعتهم إلى التراخي والإهمال، وهو ما مهد الطريق لواحدة من أجرأ عمليات الهروب في التاريخ.
من هذا السياق الأمني المحكم، تبدأ قصة أخرى: نفق صغير غير وجه "الخزنة الحديدية".
ثانيا: الحرية تحت الأرض – ملحمة النفق الذي هز إسرائيل
في فجر السادس من سبتمبر 2021، استيقظ العالم على خبر بدا وكأنه من نسج الخيال: ستة أسرى فلسطينيين انتزعوا حريتهم من "الخزنة الحديدية" عبر نفق حفروه بأيديهم على مدى شهور طويلة. لم تكن هذه مجرد عملية هروب، بل كانت ملحمة من الصبر والتخطيط والمراقبة المعاكسة، أبطالها هم: محمود العارضة (العقل المدبر)، محمد العارضة، يعقوب قادري، أيهم كممجي، مناضل نفعيات، وزكريا الزبيدي.
لقد أثبتت هذه العملية أن الأسرى لم يكونوا مجرد متلقين سلبيين لمنظومة القمع، لقد كانوا فاعلين يدرسون هذه المنظومة ويحللونها ويبحثون عن ثغراتها. كشفت التحقيقات لاحقاً عن تفاصيل مذهلة: لقد لاحظ الأسير محمود العارضة وجود ضعف بنيوي في أرضية الحمامات منذ سنوات، وانتظر بصبر اللحظة المناسبة لاستغلال هذه الثغرة. وعلى مدى شهور، كان الأسرى يراقبون السجانين، ويدرسون روتينهم، ويكتشفون أن برج الحراسة المجاور لزنزانتهم لم يعد مأهولاً بشكل دائم.
كانت عملية الحفر تتم في الخفاء، تحت أعين الكاميرات، وكانت الرمال الناتجة عن الحفر تُصرف عبر أنابيب الصرف الصحي. ورغم أن هذا الأمر تسبب في انسداد متكرر للأنابيب، إلا أن إدارة السجن، في غمرة غطرستها وثقتها المفرطة، لم تكلف نفسها عناء التحقق من السبب.
لقد حطمت عملية "نفق الحرية" أسطورة جلبوع إلى الأبد، وكشفت عن حقيقة بسيطة وعميقة: لا توجد قلعة منيعة أمام إرادة الإنسان الحر. وعلى الرغم من إعادة اعتقال الأسرى الستة لاحقاً، إلا أنهم نجحوا في توجيه صفعة مدوية للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وألهموا الملايين حول العالم.
لكن هذه الصفعة لم تمر بلا ثمن؛ فقد تحول الإخفاق الأمني إلى سياسة انتقام جماعي قاسية.
ثالثا: ما بعد الهروب – من الانتقام إلى التصعيد بعد أكتوبر 2023
كان متوقعاً أن يؤدي الهروب المذهل إلى مراجعة أمنية، لكن ما حدث كان أبعد من ذلك بكثير. لقد تحول الفشل الأمني إلى حقد وانتقام، وتحول سجن جلبوع، خاصة بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، إلى مسرح لجرائم تعذيب منظمة وسياسة انتقام وحشية تهدف إلى سحق أي أمل أو كرامة متبقية لدى الأسرى.
أكدت هيئات حقوقية وشهادات أسرى محررين أن إدارة السجن بدأت في استخدام أساليب تعذيب جديدة ومروعة. على رأس هذه الأساليب يأتي الصعق بالكهرباء الذي تحول إلى طقس سادي ولم يعد مجرد أداة لفرض السيطرة . يروي الأسرى كيف يتم اقتيادهم إلى ساحة السجن، وتقييدهم، ثم صعقهم بمسدسات "التيزر". ولزيادة الألم يتم تبليل أجسادهم بالماء ثم صعقهم مجدداً.
كما تمارس سياسة التجويع بشكل قاسٍ وممنهج، حيث يقدم الطعام بكميات شحيحة وسيئة، وغالباً ما يتم دوسه بالأقدام قبل تقديمه للأسرى. أدت هذه السياسة إلى انخفاض حاد في أوزان المئات، وانتشار أمراض سوء التغذية.
ومع اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، تضاعفت الانتهاكات بشكل غير مسبوق. تقارير مؤسسات الأسرى تشير إلى أن عدد المعتقلين تجاوز 10 آلاف أسير، بينهم 700 مريض، منهم 200 حالة خطيرة للغاية. كما وثقت استشهاد عشرات الأسرى داخل المعتقلات منذ بداية الحرب نتيجة الضرب المبرح أو الحرمان من العلاج. لقد تحول جلبوع وغيره من السجون إلى مختبر مفتوح للعقاب الجماعي، حيث غابت تماما أي رقابة أو مساءلة.
وسط هذه الممارسات، ترتفع أصوات الأسرى وذويهم، شاهدة على جحيم لا يتوقف.
رابعا: شهادات من قلب الجحيم – أجساد تروي حكاية القهر
حين تغلق أبواب السجون والزنازين الثقيلة على الأسرى الفلسطينيين، تبقى عائلاتهم هي المرآة التي تعكس وجعهم اليومي وصوتهم الممتد إلى الخارج. ففي غياب التواصل المباشر وانقطاع الزيارات، تصبح شهادة الأم أو الزوجة أو الابن وثيقة حية تروي ما يتعرض له الأسير خلف القضبان، وتمنح تفاصيل دقيقة عن معاناته الصحية والنفسية وظروفه القاسية. إنها شواهد دامغة على واقع الاعتقال الذي يحاول الاحتلال التعتيم عليه، وحلقات من سلسلة طويلة من الانتهاكات التي تضع الأسرى وعائلاتهم تحت معاناة مزدوجة: معاناة الأسر داخل الزنازين، ومعاناة الانتظار والقلق خارجها.
وفي هذا السياق، عملت مؤسسة العهد الدولية على توثيق شهادات عائلية مباشرة لعدد من الأسرى من أصحاب المؤبدات والمعتقلين الإداريين في سجن جلبوع لتشكل هذه الشهادات مادة حقوقية وإنسانية تسلط الضوء على فصول الألم الذي يعيشه الأسرى وعائلاتهم، وتكشف كيف يتقاطع القمع داخل السجون مع معاناة الانتظار خارجها.
كل شهادة هي نافذة على جحيم لا يمكن تخيله، حيث يصبح البقاء على قيد الحياة نضالاً يومياً.
الأسير فادي عودة حسين علي (41 عاماً)، من مخيم نور شمس، هو مثال حي على سياسة القتل البطيء عبر الإهمال الطبي. يقبع فادي في السجن دون حكم، ويعاني من شلل كامل في الجهة اليمنى وتشنجات عصبية مزمنة. عند اعتقاله، كان وزنه 87 كيلوغراماً، أما اليوم فقد انخفض إلى نحو 60 كيلوغراماً فقط. جسده الهزيل أصبح مرتعاً للتقرحات الجلدية المؤلمة والخطيرة نتيجة انعدام الحركة والنظافة. ورغم حاجته الماسة للأدوية والعلاج الطبيعي، تكتفي إدارة السجن بإعطائه كميات ضئيلة من الدواء، متجاهلة تماماً حالته الحرجة التي قد تودي بحياته في أي لحظة. إن قصة فادي هي قصة تحويل الإنسان من كائن حي إلى جسد يترك ليموت ببطء.
الأسير فواز سبع فايز بعارة (55 عاماً)، من نابلس، والمحكوم بثلاثة مؤبدات و35 عاماً، يعيش كابوساً صحياً متصاعداً. لقد فقد بصره تماماً في عينه اليسرى بسبب مرض "الكتراكت" (إعتام عدسة العين). منذ عام 2022، تناشد عائلته كافة المؤسسات للضغط من أجل إجراء عملية جراحية عاجلة له، لكن دون جدوى. كل يوم يمر يزيد من خطر فقدانه البصر في عينه الأخرى أيضاً. ملفه الصحي لا يتوقف عند هذا الحد؛ فهو مريض قلب يحمل بطارية، ومريض سرطان سابق فقد بسببه حاستي الشم والتذوق، ويعاني من آلام شديدة في الظهر. ومما يزيد من عذابه النفسي، أن الأطباء أخذوا خزعة من ورم اكتُشف في معدته قبل الحرب، وحتى اليوم، لا هو ولا عائلته يعرفون نتيجة الفحص ليعيش في جحيم من القلق والألم الجسدي.
الأسير بلال يعقوب البرغوثي (٤٩ عاماً)، من بيت ريما، والمحكوم بـ 17 مؤبداً، هو قصة أخرى من قصص الصمود الأسطوري في وجه سياسة الموت الممنهج. يعيش بلال بكلية واحدة منذ إصابته برصاص الاحتلال عام 1994، ويعاني من سلسلة من الأمراض المزمنة كالنقرس وارتفاع ضغط الدم والدوالي. تروي خطيبته، بيان البرغوثي، بحرقة وألم، كيف أن إدارة السجن تتعمد قطع دواء الكلى عنه لأيام، رغم أنه دواء يومي لا يمكن الاستغناء عنه. تقول بيان: "أبرز ما يجب الحديث عنه هو وضعه الصحي الراهن. أكد لنا أسرى محررون بأن وضعه سيء للغاية، وأنه موجود في العزل الانفرادي، لا نوافذ ولا ضوء ولا هواء فيها ، أوضاع بلال الصحية لا تحتمل ذلك أبداً". وتضيف أن آخر ما وصلهم من أخبار هو أنه يعاني أيضاً من مرض "السكابيوس" الجلدي، وأن "جسده متحفر للغاية ، وقد تعرض للحرق على يديه". إن قصة بلال هي قصة قائد نضالي يحاول الاحتلال تصفيته ببطء داخل السجن، عبر حرمانه من أبسط حقوقه: الحق في العلاج.
الأسير الشاب بسام شريف فتحي شحرور (31 عاماً)، من طولكرم هو مثال على الاستهداف المباشر والمتعمد. رغم أنه موقوف ولم يصدر بحقه حكم بعد، إلا أنه يتعرض لضرب ممنهج. تؤكد عائلته أنه حين يتم قمع الأسرى في قسمه، يُضرب الجميع بعصي خشبية، بينما يستهدف هو بشكل خاص بعصا حديدية، بتوصية من إدارة السجن. هذا الاستهداف الوحشي أدى إلى تدهور حالته الصحية بشكل سريع. لقد أصيب بمرض السكري داخل السجن نتيجة سوء التغذية، كما أصيب بمرض "السكابيوس" الذي تسبب له بدمامل مؤلمة في قدميه. تقول عائلته بقلق: "يتعمد الاحتلال بشكل خاص ضرب بسام ونتيجة لذلك فإن وضعه الصحي يزداد سوءاً". لقد حرمه الاحتلال من فرحة التخرج من الجامعة، واليوم يهدد بسلبه صحته وحياته.
هذه الشهادات هي عينة تمثل معاناة المئات من الأسرى الذين يواجهون نفس المصير، في ظل تفشي الأمراض الجلدية كـ"السكابيوس" بسبب منع الاستحمام ونقص النظافة، وانتشار سياسة التجويع والإهمال الطبي المتعمد.
خامسا: جلبوع تحت مجهر القانون الدولي
إن ما يحدث في سجن جلبوع، كما تكشفه الشهادات والتقارير الحقوقية هو سلسلة من الجرائم الممنهجة التي تنتهك بشكل صارخ القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
التعذيب والمعاملة اللاإنسانية: الصعق بالكهرباء، الضرب المبرح، الإذلال النفسي، والتجويع؛ كلها جرائم تندرج مباشرة تحت تعريف "التعذيب" المحظور حظراً مطلقاً.
الإهمال الطبي المتعمد: حرمان الأسرى من العلاج، خاصة المرضى المزمنين، يرقى إلى مستوى "القتل العمد"، وهو مخالفة جسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة.
ظروف الاعتقال غير الإنسانية: منع النظافة، الازدحام الشديد، وانتشار الأمراض؛ كلها انتهاك مباشر لقواعد نيلسون مانديلا.
المسؤولية الفردية: المسؤولية لا تقع على الدولة فقط، بل على كل من نفذ أو أمر أو أشرف، وصولاً إلى القيادة السياسية.
وهنا تؤكد مؤسسة العهد الدولية إن الصمت الدولي تجاه هذه الجرائم هو بمثابة ضوء أخضر لاستمرارها ، وأن العدالة للأسرى لا تتحقق إلا بتفعيل آليات المساءلة الدولية، وفتح تحقيق من المحكمة الجنائية الدولية.
جلبوع ليس مجرد سجن؛ إنه مرآة مكثفة لعقلية استعمارية تقوم على القمع والإفلات من العقاب. وإذا بقيت الجدران شاهدة صامتة، فإن أجساد الأسرى ستبقى تصرخ بالحقائق التي لا يمكن حجبها.
بسام شحرور: حكاية صمود في زنازين الصمت
4 أكتوبر 2025بسام السعدي.. أسير يقاوم خلف القضبان وعائلة تواصل...
2 أكتوبر 2025من الإعدام البطيء إلى المقصلة العلنية: إسرائيل تشر...
2 أكتوبر 2025الأسيرة المحررة رماء بلوي: وجع الأمومة خلف القضبان
1 أكتوبر 2025مقعدٌ فارغ ودرسٌ مؤجل لطلابٍ خلف الزنازين
1 أكتوبر 2025الأسيرة كرم موسى، تحارب الدامون ببراءة الأحفاد
29 سبتمبر 2025تعرض الشيخ بسام للاعتقال لأكثر من 18 عاماً مجتمعة في سجون الاحتلال، كانت غالبها اعتقالات إ...
لم يكن مشروع قانون إعدام الأسرى وليد اللحظة، بل طرح مرارا خلال السنوات الماضية، مما يعكس ت...
اعتقال طلاب المدارس لم يعد حالة فردية، بل تحوّل إلى سياسة ممنهجة يمارسها الاحتلال بشكل يوم...