تفاصيــل الخبـر

ملف المفقودين في غزة : مأساة إنسانية مستمرة وجرح لا يندمل

بين الأنقاض المدمرة وفي غياهب السجون، تتوارى ملامح آلاف الغزيين المفقودين في مأساة إنسانية تتجاوز حدود الحرب المباشرة. هم ليسوا شهداء يشيَّع نعشهم، ولا أحياء تعرف أخبارهم، بل عالقون بين الغياب والانتظار؛ تبحث عنهم عائلاتهم منذ شهور في المستشفيات والمقابر الجماعية ومراكز الإيواء بلا جدوى. مأساة المفقودين في غزة تفتح جرحا آخر لا يقل فداحة عن القصف والدمار المستمر.

أرقام متضاربة تكشف عمق المأساة الإنسانية

تشير الإحصاءات المتباينة حول أعداد المفقودين في قطاع غزة إلى اتساع الفجوة بين الواقع والأرقام الرسمية ما يعكس حجم الكارثة الإنسانية. فوفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، يتجاوز عدد المفقودين 11 ألف شخص بينهم آلاف الأطفال والنساء وكبار السن.

الأمم المتحدة قدرت أعدادهم بما يتراوح بين 8 آلاف و11 ألفا معظمهم من الفئات الأضعف، فيما ذهب المرصد الأوروبي لحقوق الإنسان إلى تقدير العدد بأكثر من 13 ألفا تحت الأنقاض أو في مقابر جماعية. أما منظمة "أنقذوا الأطفال" فأشارت إلى أن ما بين 17 و21 ألف طفل ما زالوا في عداد المفقودين.

وفي السياق ذاته، أكد "المركز الفلسطيني للمفقودين والمخفيين قسريا" أنه تلقى عشرات البلاغات عن أشخاص فقدوا أثناء توجههم إلى نقاط توزيع المساعدات في ظروف وصفت بأنها "مريبة وغير آمنة".

هذا التضارب في الأرقام يسلط الضوء على انهيار شبه كامل في منظومة البحث والانتشال ويكشف عن عجز المؤسسات المحلية والدولية عن مواكبة حجم الكارثة الإنسانية المتصاعدة في غزة.

 

مراكز المساعدات وحواجز النزوح.. محطات جديدة في مأساة المفقودين بغزة

تحولت مراكز توزيع المساعدات التي تشرف عليها الولايات المتحدة عبر ما يسمى بـ "مؤسسة غزة الإنسانية" إلى ساحات موت وفقدان، على الرغم من التحذيرات السابقة للأمم المتحدة ووكالة "الأونروا" بشأن خطورة هذه الآلية وعدم ضمان سلامتها.

ففي طوابير طويلة بحثا عن كيس طحين، اختفى عشرات الفلسطينيين في محور زيكيم كما حدث في "مجازر الطحين" عند دواري الكويتي والنابلسي، حيث استشهد بعضهم جراء الاستهداف المباشر، بينما فقد آخرون وسط زحام النزوح أو تعرضوا للاعتقال دون أن تسجل أسماؤهم رسميا. وتشير مصادر حقوقية إلى أن عددا من هؤلاء لم يدرج في قوائم الضحايا ما عقد عمليات التوثيق وزاد من غموض مصيرهم.

ومع اتساع رقعة التهجير القسري، أصدر جيش الاحتلال تحذيرات جديدة لسكان أحياء واسعة في مدينة غزة للنزوح جنوبا، الأمر الذي أثار مخاوف من تكرار مأساة حاجز نتساريم، حيث اختفى المئات ولم يكشف عن مصير الكثير منهم حتى اليوم. وهكذا يتوسع جرح المفقودين يوما بعد يوم بين الأنقاض، ومراكز المساعدات، والحواجز العسكرية، فيما تواصل الحرب الإسرائيلية إضافة أرقام جديدة إلى سجل الفقد وتترك آلاف العائلات رهائن الانتظار والغياب

القانون الدولي.. انتهاكات بلا محاسبة

يشكل ملف المفقودين في غزة خرقا صارخا للقانون الدولي الإنساني الذي يلزم قوة الاحتلال بحماية المدنيين وضمان حقوقهم الأساسية. فالمادة (27) من اتفاقية جنيف الرابعة تنص على ضرورة حماية المدنيين في جميع الأحوال من أي اعتداء على حياتهم أو كرامتهم، فيما تحظر المادة (49) النقل القسري أو الإبعاد الجماعي.

ويؤكد خبراء حقوقيون أن هذه النصوص تنتهك بشكل ممنهج في غزة، حيث يفترض وفق قواعد الحرب اعتبار كل مفقود شخصا محميا، وعلى الأطراف المتحاربة إطلاع عائلته على مصيره وهو ما لم يحدث مع آلاف الفلسطينيين.

فالمفقودون تحت الأنقاض محرومون من فرق إنقاذ، والمفقودون أثناء النزوح يختفون في ظروف قسرية أقرب إلى الإخفاء الجماعي، أما المفقودون في طوابير المساعدات فقد تحولوا إلى ضحايا "سياسة استدراج مميتة" وثقتها منظمات دولية.

 وإلى جانب ذلك فإن استخدام المدنيين كدروع بشرية كما ورد في تقارير حقوقية يرقى إلى جرائم حرب وفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

كما أن منع المنظمات الدولية من الدخول للتحقيق أو التوثيق يشكل جريمة إضافية، ويفتح الباب لمساءلة الاحتلال على تعمده تعطيل آليات البحث والإنقاذ وإخفاء الأدلة. وهكذا يصبح تنوع حالات الفقدان بين الدفن تحت الركام، أو الاعتقال غير المعلن، أو الاختفاء عند الحواجز ومراكز المساعدات شاهدا على انتهاك شامل للقانون الدولي، ودليلا على الطابع الإبادي للحرب الجارية في غزة.

شهادات حية رصدتها مؤسسة العهد الدولية

وثقت مؤسسة العهد الدولية عبر مقابلات ميدانية وشهادات عائلية، عدداً من حالات الفقدان في قطاع غزة، ضمن عملها الحقوقي والإنساني الرامي إلى متابعة أوضاع المفقودين. ومن خلال تواصلها مع عائلات الضحايا، رصدت المؤسسة قصصاً مؤلمة لأشخاص انقطعت أخبارهم منذ أشهر، وبات ذووهم يعيشون على أمل ضعيف بعودتهم أو على خوف دائم من أن يكونوا قد دفنوا في مقابر بلا أسماء.

رغم اختلاف أماكن وظروف الاختفاء، فإن القاسم المشترك بين هذه العائلات يبقى السؤال المعلق: ما مصير أبنائنا؟

فقد الشاب زهدي سامي زهدي طعيمة (37 عاماً) من مخيم جباليا، صباح 20 ديسمبر 2023، ومنذ ذلك اليوم انقطعت أخباره كلياً، وغابت صورته عن كل معلومة، ولم تعثر عائلته على أي خيط يفسر غيابه.

أما الشاب درويش سفيان درويش محيسن (35 عاماً) من مخيم جباليا، فقد اختفى مطلع فبراير 2024، حين كان نازحاً في مدينة غزة، ولجأ إلى مدرسة اليرموك. وبعد اقتحام قوات الاحتلال المنطقة، لم يُعرف مكانه حتى الآن.

الفتى محمد ياسر سعيد زقوت (19 عاماً) اختفى من داخل مدرسة أسماء بنت أبي بكر للنازحين، حيث شاهده والده للمرة الأخيرة بتاريخ 2 ديسمبر 2023. منذ ذلك الحين لم تصل العائلة إلى أي معلومة رغم بحثها المستمر.

جنوباً، كان الشاب عمر زهير يوسف معروف (22 عاماً) نازحاً في مبنى جامعة الأقصى بمدينة خانيونس حتى مطلع عام 2024، وبعد اقتحام المنطقة انقطعت أخباره كلياً.

وعلى الساحل الشمالي بين غزة وبيت لاهيا، فقد الفتى سعيد مبارك السواركة (19 عاماً) من منطقة السودانية. كان يعمل في قطف الزيتون صباح 7 أكتوبر 2023، ومع بدء القصف اختفى أثره، ولم تفلح والدته رغم مراجعة المؤسسات الدولية في معرفة أي تفاصيل عن مصيره.

في جميع هذه الشهادات يتكرر الوجع ذاته، وتبقى الأسئلة المعلقة بلا جواب: هل هم أحياء معتقلون في السجون؟ أم طمرت أجسادهم تحت الركام؟ أم وضعوا في مقابر جماعية بلا أسماء؟ يبقى المصير مجهولا، فيما تتوحد عائلات المفقودين على الألم، وعلى انتظار قد لا ينتهي.

المفقودون في غزة بين صمت إسرائيل وتقاعس المجتمع الدولي

تفاقمت معاناة آلاف العائلات الفلسطينية في قطاع غزة مع استمرار غياب التوثيق الرسمي لمصير المفقودين في ظل لجوء إسرائيل إلى ما يسمى بـ "قانون المقاتل غير الشرعي" الذي أُقر عام 2002. هذا القانون يتيح اعتقال أي شخص يشتبه بمشاركته في "أعمال عدائية" دون محاكمة أو توجيه تهمة، ويجيز احتجازه إلى أجل غير مسمى بالاستناد إلى ملفات سرية.

وبعد السابع من أكتوبر 2023، اعتبرت إسرائيل جميع معتقلي غزة "مقاتلين غير شرعيين"، ونقلت الآلاف منهم إلى قاعدة "سديه تيمان" العسكرية حيث يواجهون ظروفا قاسية من التعذيب والإهانة والتجويع في مخالفة واضحة لاتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة التي تكفل حماية المدنيين وتمنع الاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري.

في موازاة ذلك، تشير تقارير حقوقية إلى أن آلاف الأشخاص ما زالوا عالقين تحت أنقاض منازلهم، خاصة في المناطق التي منعت فيها طواقم الإسعاف من الدخول أو التي استهدفت فيها فرق الدفاع المدني. في جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون والشجاعية والزيتون وخانيونس ورفح، والآن مدينة غزة تفوح روائح الموت من بين الركام فيما يقف الأهالي عاجزين عن انتشال أحبتهم أو التأكد من مصيرهم.

ورغم مرور شهور على الحرب، لم تصدر إسرائيل أي قوائم رسمية بأسماء المعتقلين أو الموتى لديها، بينما عقدت جلسة طارئة في مجلس الأمن لمناقشة مصير ستة جنود إسرائيليين زعمت أن حركة حماس أعدمتهم في غزة دون أن يطرح على طاولة المجلس مصير آلاف الفلسطينيين المفقودين.

مؤسسة العهد الدولية دعت إلى تحرك عاجل يلزم إسرائيل بالكشف عن مصير المعتقلين، وفتح تحقيقات مستقلة في جرائم الإخفاء القسري ومواقع الدفن الجماعي. كما حذرت من أن هذه الجرائم ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية التي لا تسقط بالتقادم وأن مرتكبيها يجب أن يقدموا للعدالة الدولية.

في غزة، لا تنتهي الحرب مع توقف القصف؛ فهناك شهداء يشيَّعون، ومفقودون لم يعرف مصيرهم، وأجساد تدفن بلا وداع. الأخطر من ذلك أن يتحول الغياب إلى مجرد رقم في تقرير أو اسم عالق في ذاكرة الركام.

 

أخبار مشابهة