تفاصيــل الخبـر

حكايا الزهور داخل سجن الدامون

عندما قال درويش "تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور"، كان يعي أنه من فلسطين، وأن زهراتها جمرات، لا يموت ثأرها، ولا تخمد نارها، ولا تنتهي قصتها إذا قطفتها يد المعتدي من شجرتها، وألقت بها في قعر زنزانة، فجذورها تنمو في الظلام، وبراعمها تستعد للثورة، أريجها يعبق رغم النَتَن من حولها، ولونها يسطع رغم الذبول، ومن أشواكها تصنع حصن صمودها، وتدون فصول الإجرام بحبر الصبر، وفي عتمة الدّامون، تسحق أقدام السجان بتلات الزهور، لكنها تبعث من جديد، وتصوغ لنا الحكاية.

خمس زهرات

سلام، أسيل، أماني، ميسون، وفاطمة، نساء تفرقت بهن دروب الوطن المقطع الأوصال، وجمعتهن عتمة سجنه، بين قرى نابلس والخليل والقدس، توزعت عائلات الأسيرات، وبين التاسعة عشرة والسابعة والأربعين تناثرت أعمارهن على خط الزمن، لكنّ الدامون جمعهنّ في بقعة ضيقة، وطابور مقيت، وزنزانة عفنة، ورغم اختلاف قصة وتفاصيل الأسر، تتشابه الحياة في السجن إلى حدّ الألم.

لحظة الاعتقال

في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، كانت سلام كساب ترقد داخل بيتها في قرية قريوت جنوب نابلس، حين اقتحمت قوات الاحتلال سكينة البيت، واقتادت الطالبة التي تستعد لامتحاناتها الجامعية، إلى معسكر حوارة، ومنه إلى مركز تحقيق سالم، ثم هشارون، ثم الجلمة، ليستقر بها المقام في الدامون.

 أما أسيل حماد ابنة بلدة بيت فوريك قضاء نابلس، تم اعتقالها خلال عودتها من زيارة عائلية في بلدة عنبتا، وبطريقة وحشية قام الجنود بإنزالها من السيارة وتكبيلها أمام طفلتها إيلياء، التي بقيت تبكي في السيارة، ومن هناك نُقلت أسيل إلى مركز تحقيق حوارة، ثم إلى سجن الشارون، ومنه إلى الدامون.

إلى الجنوب، حيث بلدة يطا قضاء الخليل، انتزعت أماني النجار المعلمة الأم لخمسة أطفال، من حضن عائلتها، ومن حاجز "زيف" العسكري نقلت إلى كريات أربع ومنها إلى المسكوبية ثم الشارون، قبل أن تنقل إلى سجن الدامون.

ومن ذات المدينة الخليل، اعتقلت ميسون مشارقة، الأم لسبعة أبناء ومالكة روضة أطفال من بيتها، وتم احتجازها في مركز تحقيق "المسكوبية"، ومن هناك نقلت إلى سجون الشارون ثم الدامون.

وفي منتصف ليلة أخرى في قرية بدّو شمال غرب القدس المحتلة، اعتقلت فاطمة منصور الأم لسبعة أبناء، وتنقلت بين عدة مراكز اعتقال وتحقيق: من الكرفانات إلى مركز أريئيل، ثم إلى سجن "هشارون"، إلى أن نقلت إلى سجن الدامون، وهناك، بدأت كل منهن معركتها ضد الظلم والظلام.

المقام الأخير

كل أسيرة كانت تصل إلى الدامون كمرحلة أخيرة بعد عدة تنقلات بين مراكز التحقيق، وسجون أخرى، وكانت تعاني كل منهن عذابها الخاص في رحلة الوصول إلى منتهى العذاب الأخير، فمنهن من احتجزت في زنزانة تحت    الأرض برفقة القاذورات والحشرات والجرذان، ومنهن من قضت أكثر من شهر في نوبات التحقيق المضنية، ومنهن من أودعت العزل الانفرادي، ثم التقين جميعا في الدامون، حيث الوجع المشترك، والأمل الدفين.

غرف كالقبور

 في غرف رطبة، معتمة، وضيقة، ازداد تكدس الأسيرات فيها بعد أن انتزعت إدارة السجون ثلاثة من الغرف المخصصة لهن، لصالح سجينات جنائيات يهوديات، تلك الغرف التي تعيش فيها الأسيرات، كانت رطبة حتى العظم، خانقة بلا تهوية، كأن الجدران تنكمش عليهن، فيبحثن عن أصغر فتحة في الحائط ليتنفسن منها.

صادرت قوات الاحتلال أغلب المتعلقات الشخصية للأسيرات، بما فيها الملابس الضرورية، والأحذية، وتمنع إدخال البدائل لهن، وتمنع حتى الملابس الداخلية، ويجبرن على إعادة استخدام بعض الأغراض، وفي كثير من الأحيان يقمن بصناعة بعض القطع البسيطة من الشراشف والأغطية ليسترن أنفسهن، كما صودرت هواتفهن وحقائبهن الخاصة.

يجابهن ظلام الغرفة بنور القرآن، وضيق الجدران بسعة الصلاة، وبرد الليل بدفء القيام، وقسوة السجن بدعاء الرحمن.

 

 

جوع، ومرض، وأقذار

تعتمد إدارة السجون على نظام تجويع ممنهج، فتقلل كميته إلى الحدّ الذي يمنع موت الأسيرات فقط، فأحياناً يكون الطعام نصف ملعقة من اللبنة، أو ملعقتين من الأرز، أو شيء لا يكاد يرى من الشوربة، ومع الإنهاك الجسدي بسبب قلة الطعام تتدهور مناعة الأسيرات، وتصبح مجابهة الأمراض المنتشرة أمراً صعباً جداً، فبسبب إن الرطوبة العالية في الزنازين، وسوء التهوية، وإغلاق الشبابيك وقلة النظافة، تفشّى بينهن مرض جلدي معدٍ كوباء، وترك بقعا وآثاراً واضحة على أجسادهن، فالصابون يُوزع مرتين فقط في الأسبوع بكمية لا تكاد تكفي حاجة ربع النساء، والفوط الصحية تعاني من نقص حاد، ومع ذلك كله، يغيب الدواء، والغذاء.

تعسف وعقوبات

لم تكف كل تلك الظروف المأساوية سلطات السجون لقهر الأسيرات، ففرضت عليهن إجراءات عقابية متواصلة: اليدان مكبلتان معظم الوقت، والفورة (فترة الاستراحة خارج الزنزانة) تحولت من لحظة تنفس إلى سباق مع الزمن يوزع فيه الطعام في عجالة، وطوابير الدخول للحمام، وتنتهي الدقائق القليلة لتعاد الأسيرات فوراً مكبلات.

إدارة السجن قائمة على العقوبات الجماعية والمزاجية، وتفرض عقوبات تعسفية على أدنى تصرف، كالضحك، أو الحديث بصوت مرتفع، أو حتى السكوت!

شوق وأمل

لكل أسيرة بيت تحنّ لدفئه، أطفال تشتاق احتضانهم، وأهل يفتقدون فنجان القهوة الذي تعدّه، لكل منهن حياة، ومستقبل، حلم، وأمل واحد كبير، أن ينتهي الظلام، وتشرق الشمس من جديد.

أخبار مشابهة